في الذكرى الـ 40 للثورة: الإمام الخميني حين تحدّى الغرب وانتصر
في العام 1987 وكنت وقتها في المراحل الأخيرة من إنهاء رسالتي للدكتوراة في العلوم السياسية من جامعة القاهرة وكانت عن "الإحياء الإسلامي في مصر وإيران في السبعينات"، سألني وقتها أحد أساتذتي: لماذا تنحاز هكذا للخوميني (هكذا نطقها وكتبها كما كان شائعاً في الإعلام العربي) وثورته، رغم أنها ثورة تخدم المشروع الغربي ولن تُعادي إسرائيل، بل ستكون حليفة لها، كما كان الشاه؟ قلت له بعد أن صحّحت له الإسم _ إسم الإمام الخميني _ "إن تحليلك ونتائجك يا إستاذي غير صحيحة وستثبت لك الأيام ذلك، وأن مقدّمات الثورة وفكر قادتها وفي طليعتهم هذا الشيخ الثائر تؤكّد أن النتائج القادمة ستكون غير ما تفكّر فيه تماماً"، وقد كان.
كانت مصر في تلك الأيام ومعها المنطقة مستقطبة ناحية صدّام حسين وحربه المجرمة التي فرضها على إيران وموّلتها السعودية ودول الخليج والولايات المتحدة في مؤامرة تاريخية لإسقاط الثورة الوليدة في إيران ولاستزافها وشغلها عن الأهداف الاستراتيجية التي قامت من أجلها في العام 1979، ومرّت تحت جسور المنطقة مياه كثيرة وتشعّبت واتّسعت المؤامرات على إيران، لكنها انتصرت وسقط صدّام ومعه مشيخيات الخليج، بل وتحاربوا وتقاتل بعضهم مع بعض طيلة التسعينات والألفية الأولى، ونصعت في سماء المنطقة الرؤية الاستراتيجية والثابتة للثورة الإسلامية في إيران ضد أطماع الغرب وضد الكيان الصهيوني، وخاضت حروباً ودعمت حركات مقاوِمة ضد واشنطن وتل أبيب كان أبرزها حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني، وما فتئت طيلة 40 عاماً تقدّم الغالي والنفيس من سلاح ومال وتدريب وسياسة من أجل فلسطين، رغم استمرار المؤامرة وتنكّر بعض الحلفاء وإنحراف بوصلة البعض الآخر في زمن الربيع العربي الزائف (2011-2019)، ظلّت إيران قابضة على الجمر، وفيّة للقدس وفلسطين، كل ذلك في تقديرنا له أسبابه السياسية والاستراتيجية، وقبل هذا جميعه له أسبابه العقائدية التي رسّخها ووضع بذرتها الأولي منذ اليوم الأول للثورة، الإمام الخميني من دون خوف أو تردّد أو حسابات مصلحية عابرة.
واليوم ونحن نحتفل بالعيد الـ 40 لهذه الثورة التي غيّرت وجه المنطقة، نتأمّل بعض تلك المبادئ التي قدّمها الإمام ومثّلت نبراساً لمَن أتى من بعده من قادة المقاومة في إيران وخارجها في مواجهة (الشيطان الأكبر؛ أميركا، كما كان يُسمّيها الإمام) أو الشياطين الصغيرة من صهاينة يهود وصهاينة عرب، في هذا السياق دعونا نتذكّر ونُعيد تأمّل بعضاً من كلمات ورؤى هذا الإمام المؤسّس.
يحدّثنا التاريخ بأن الغرب لدى الإمام الخميني إستعماري بطبعه ومُعادٍ للإسلام منذ قرون مضت، وفي هذا المعنى يقول مُخاطباً الحجّاج بمكّة المكرّمة عام 1399هـ "قفوا في وجه أعدائكم المُتمثّلين في أميركا والصهيونية العالمية والقوى الكبرى سواء الشرقية منها أو الغربية من دون خوف أو وجل"، إن الهدف الأصلي للدول الاستعمارية من وجهة نظره هو القضاء على القرآن ومحوه، والقضاء على الإسلام وعلماء الإسلام، "خطة محو الإسلام وأحكام القرآن المقدّسة، وجهازه الجبّار هو الأداة لتنفيذ هذه الخطة المشؤومة، والخطة هي أن يتركوا الوطن متأخّراً، وبإسم تشجيع العلم و"كتائب التعليم" يقمعون المدارس الدينية، والجامعات بإسم الإسلام تُهان أحكامه المقدّسة" رسالة إلى المراكز العلمية في 8 محرم 1387هـ.
إن الغرب لدى الإمام لا يبثّ الفرقة فقط بل يوظّف لصالحه كل شيء حتى الصحافة والتلفزيون والمدارس، وفي هذا المعنى يقول: "إن الأيدي التي تبثّ الفرقة بين المسلمين هي أيد قذرة"،"إن الأيدى القذرة التي تبثّ الفرقة بين الشيعي والسنّي في العالم الإسلامي لا هي من الشيعة ولا من السنّة، إنها أيدي الاستعمار التي تريد أن تستولي على البلاد الإسلامية من أيدينا، والدول الاستعمارية والدول التي تريد نهب ثرواتنا بوسائل مختلفة وحيَل متعدّدة هي التي توجد الفرقة بإسم التشيّع والتسنّن" خطابه في 2 جمادي الأولى، 1384هـ.
وكان لدى الإمام قناعة أثبتت التجارب اللاحقة لقيام الثورة وحتى اليوم -2019- صدقها وهي أن ماضي وحاضر المسلمين ارتبط بالنضال ضد الاستعمار الغربي، بمعنى أن النضال مثَّل سمة أصيلة للإسلام في مواجهة المستعمر حتى في أضعف لحظات العالم الإسلامي. إن اكتشاف هذه الخاصية تطلّبت منه استيعاب كل الخبرة الإسلامية الأولى التي وجدت أيام الرسول ثم الخروج بتصوّر مُتكامِل لظرفيّتها والواقع الذي كانت عليه، وهنا نجده كان مُلماً بكافة جوانب الجغرافية الإسلامية تاريخياً باعتبارها جزءاً من الخبرة التاريخية ومَن يقرأ كتابه الأشهَر (الحكومة الإسلامية – ترجمة حسن حنفي) يكتشف ذلك جيداً.
السمة الأخيرة للغرب عند الإمام أنه يتلخّص في الولايات المتحدة الأميركية وهي تُعتَبر لديه أسّ الفساد (والشيطان الأكبر) حيث كل "المصائب التي حاقت بنا وكل مشاكلنا من أميركا، كل المصائب التي حاقت بنا وكل مشاكلنا من إسرائيل، هؤلاء النواب من أميركا، هؤلاء الوزراء من أميركا، كلهم معيّنون من قِبَلها لقمع هذه الأمّة المظلومة" ورد هذا القول في بيان تاريخي ضد الامتيازات الأجنبية في إيران في كتاب د. إبراهيم الدسوقى شتا : الثورة الإيرانية – الجذور والأيديولوجية، ص144.
أما موقفه من الكيان الصهيوني فهو يرفض وجوده من الأساس ويعتبره (غدّة سرطانية) لا بد من إجتثاثها من الجذور، وفي ندائه إلى حركات التحرير العالمية في 15/11/1979 يقول لهم: "انهضوا ودافعوا عن كيان الإسلام وعن شعوبكم وأوطانكم فإسرائيل قد أخذت بيت المقدس من المسلمين"، "وهو يدعو المسلمين إلى أن ينهضوا ويدافعوا عن الإسلام وعن مركز الوحي بالكفاح المسلّح، وهو يعتبر أن أية إتفاقات مع العدو الصهيوني بمثابة خيانة للإسلام وفي مقدّمة تلك الاتفاقات إتفاقية كامب ديفيد.
ولا ننسى أخيراً أنه أسّس تقليداً نضالياً سياسياً وثقافياً جديداً من أجل فلسطين حين دعا لجعل الجمعة الأخيرة من شهر رمضان كل عام يوماً عالمياً للقدس.
اليوم وبعد رحيل الإمام (رحل في 3/6/1989) وفي الذكرى الأربعين لثورته، نؤكد أن ما زرعه الرجل من أجل فلسطين وفي مواجهة المشروع العدواني الأميركي الغربي ضد العرب والمسلمين؛ قد أثمر وانتصر، رغم الصعوبات والتضحيات، ولعل نظرة هادئة مُحايدة، لإيران والمنطقة، اليوم، ومقارنتها بسؤال إفتراضي هو:
ماذا لو لم يأت الإمام وثورته وكيف كان حالها؟ بالتأكيد كان الأمر سيكون بائساً شديد القتامة.
رحم رحم الله الإمام وحفظ ثورته وقوى المقاومة التي تربّت على مبادئها وروحها العظيمة.