موسكو تعود بقوّة إلى الشرق الأوسط من كافة أبوابه
لم يصطحب فلاديمير بوتين الرئيس المصريّ عبد الفتاح السيسي في سيارته الجديدة بمَحْضِ الصدفة. ربما أراد أن يُضفي على جولته السيّارة في شوارع موسكو، بُعداً مسرحياً، يريد بواسطته القول إن بلاده عادتْ إلى الشرق الأوسط بقوّةٍ من أبوابه الرئيسة، واليوم من الباب المصري الكبير، بعد أن خرجتْ منه مُهانة في بداية سبعينات القرن الماضي، في عهد الرئيس الراحِل أنور السادات، الذي طردَ الخُبراء السوفيات في ليلةٍ واحدة، وبما يشبه العداء المجانيّ الذي لا يستحّقهُ بلدٌ ساعدَ مصر على كل صعيدٍ وساهم في رفع شأنها، عندما أدار العالم الغربي ظهره لها ومن ثمّ ناصَبها العداء.
يعود بوتين إلى الشرق الأوسط بعد أن خسِرتْ بلادهُ الحرب الباردة، واضطرت إلى الدفاع عن نفسها داخل حدودها في الشيشان، ومن بعد على أطرافها المباشرة في آسيا الوسطى وجورجيا وأوكرانيا..الخ. هذا إذا أردنا أن نغضّ الطّرفَ عن تهميشها في حروب البلقان ونَصْب قاعدة عسكرية أميركية في كوسوفو أيّ في قلب عرينها السُلافي.
ويعود بوتين إلى الشرق الأوسط في سياق انتقالٍ أميركي استراتيجي من "قلب العالم" إلى المحيط الهندي، بعد أن خسرت واشنطن حربيّ العراق وأفغانستان، وقرّرتْ مع ترامب على الأقل، أن تنشغلَ بقضاياها الداخلية وأن تُعطي الأولوية للتنافُس مع الصين في بحرها، وأن تُنهي الحرب الكورية، وفي السياق أن تُعامل حلفاءها الغربيين بمنطق الدّفع "نقداً وعدّاً" والحماية بالأجرة على طريقة بلاك ووتر.
والعودة الروسية تتمّ أيضاً في ظلّ تراجُع الدول الأوروبية ذات التاريخ الكولونيالي في الشرق الأوسط ونعني بذلك فرنسا وبريطانيا وجزئياً أسبانيا وإيطاليا. هذه الدول التي انكشفت تبعيّتها الأمنية للولايات المتحدة الأميركية عبر تغريدات ترامب المُهينة وانكشف تأثيرها المُنحَسِر والضعيف جرّاء عجزها عن تشكيل قُطبٍ عسكري وسياسي دفاعي مستقل، فبانت برأسٍ إقتصادي عملاقٍ، وقدمين من القشّ في المجالين العسكري والسياسي، وبالتالي صار من الصعب على دول الشرق الأوسط أن تستجير بها لتحلّ محل واشنطن جزئياً أو كلياً.
إن متابعة التقدّم الروسي المُتسارِع في المنطقة، تُتيح التحقّق من الأوتاد التي يغرسها بوتين في الشرق الأوسط في أكثر من ملف وأكثر من قضية. التقدّم الأكثر أهمية نراهُ في الملف السوري، الذي أتاحَ لموسكو تحالفاً استراتيجياً لمدّةٍ لا تقلّ عن نصف قرن، مُكرّسة باتفاقات عسكرية واقتصادية وسياسية بالِغة الأهمية. هذا فضلاً عن الفضاء الجيوسياسي الذي انفتح أمام الروس إنطلاقا من سوريا. فموسكو اليوم شريك لتركيا في إقفال الفصل الأخير من الحرب على سوريا، وشريك لتركيا أيضاً في صفقة السلاح الاستراتيجي أس 400 وفي تبادل الطاقة والسياسة والاستثمار، بما يُقدَّر بمليارات الدولارات. وتتشارك موسكو مع إيران في الدفاع عن سوريا وفي مجالات أخرى نووية واقتصادية وصولاً إلى التسوية الأخيرة في بحر قزوين، ناهيك عن التطلّع الإيراني إلى الانخراط في مجموعة شنغهاي بعضويّة كاملة.
في زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى موسكو لاحظنا حجم وأهمية الاتفاقات الموقَّعة بين الطرفين والتي شملت المجال العسكري والمجال النووي والمجالين التصنيعي والسياحي، فضلاً عن استثمارات تحتاج إليها السوق المصرية وتُقدَّر بمليارات الدولارات. هذا فضلاً عن الفضاء الجيوسياسي الذي تُتيحه الشراكة المصرية الروسية. في سوريا أولاً حيث ينعقد رهانٌ على عودة دمشق إلى جامعة الدول العربية وفتح الحدود العربية السورية. وفي الملف الليبي حيث يتطلّع خليفة حفتر صديق المصريين إلى علاقاتٍ قويةٍ مع الروس، تسمح له بالحصول على السلاح وسط مُقاطعة دولية لتصدير السلاح إلى ليبيا، وتُتيح لروسيا دوراً في الأزمة الليبية سيكون بعد اتفاق الشراكة الاستراتيجية مع مصر أقوى من ذي قبل.
وحيث لا تكون موسكو شريكاً وحيداً أو شريكاً أساسياً في الشرق الأوسط فهي شريكٌ ثانٍ أو ثالثٍ يمكن اللجوء إليه لتوسيع هامش المناورة مع الحليف أو الشريك الأميركي الأساسي. وتلك حال المملكة العربية السعودية التي تُراهن على علاقاتٍ مع روسيا تتعلّق بالتسليح وبأسعار النفط وبالملفات التي تهمّ الطرفين في العالم العربي. ولعلّ الرِهان الروسي على تعميق الشراكة مع السعودية يُعَدُّ من بين أهم الأسباب التي جعلتْ موسكو تمتنعُ عن التصويت على قرار مجلس الأمن الذي أعطى شرعية للتحالف السعودي بشنّ الحرب على اليمن ، والرِهان نفسه أدّى إلى أن تلتزم موسكو موقفاً هو أقرب إلى الحياد في قضية جمال الخاشقجي.
وتلك هي أيضاً حال قطر التي تتعرَّض لحِصارٍ سعودي وترغبُ في كَسْرِ هذا الحصار عبر توسيع علاقاتها الخارجية. فقد بادرت إلى شراء حِصَصٍ في شركة "روس نفط" الروسية بحوالى 15 بالمئة من أسهم الشركة ، وتنوي شراء المنظومة الدفاعية أس 400 في مباردة يبدو أنها مُنافِسة للمبادرة السعودية لشراء المنظومة نفسها. ومن غير المُستبعَد أن تكون زيارة وزير الدفاع الروسي إلى الدوحة الصيف الماضي قد تمّت في هذا الإطار.
أما في المغرب العربي فالواضح أن روسيا تحتفظ بعلاقاتٍ استراتيجيةٍ تاريخيةٍ مع الجزائر التي تلقّت أول اعتراف عالمي باستقلالها من موسكو السوفياتية، في حين اعترفت الجزائر بالإتحاد الروسي منذ لحظة إعلانه، والتحق آلاف الطلاب الجزائريين بالمعاهد الروسية في مجالات تخصّص متنوّعة. ولعلّ الملفات الأبرز بين البلدين تتصل بالتسليح والنفط والغاز، إضافة إلى تبادل الخبرات في مكافحة الإرهاب، في حين تبدو موسكو أقرب إلى موقف الجزائر في قضيّة الصحراء الأمر الذي لا يروق للمغرب الأقصى الذي يبحث دائماً عن موقفٍ روسي مُتوازِنٍ في هذه القضية.
لا رَيْبَ في أن الاندفاعة الجديدة في العلاقات المصرية الروسية قد توسّع النفوذ الروسي في إفريقيا، وبالتالي تستعيد موسكو جزءاً مهماً من مراكز نفوذها السوفياتية السابقة، الأمر الذي يتناسب تماماً مع طموحات فلاديمير بوتين فهو لا يتردّد في إبداء الأسف في مناسبات مختلفة على غياب الاتحاد السوفياتي.
ليست الجغرافيا وحدها المسؤولة عن عودة موسكو القوية إلى الشرق الأوسط، فالهزيمة الأميركية في "قلب العالم" والانتقال الاستراتيجي الأميركي إلى المحيط الهندي وبحر الصين، ناهيك عن رغبة العديد من الدول العربية في تنويع علاقاتها الدولية، كل ذلك ساهم ويساهم في فتح أبواب المنطقة أمام الروس الذين ما كانوا يوماً مُستعمرين ولا عملوا يوماً على استتباع دول المنطقة وشعوبها وصولاً إلى المساهمة في حماية سوريا قلب العالم العربي الذي يواصل إيقاعه بفضل المساعدة الروسية .
عندما تُقدِّم لك دولةٌ عُظمى فرصاً واسعة للنمو والتقدّم من دون استتباع ثقافي أو سياسي فما عليك إلا أن تلتقط هذه الفرصة النادرة.. شرط أن تتخلّى أنت عن ثقافة التابِع مرة واحدة وإلى الأبد.