سقوط الخاشقجي في منطقةٍ غامضةٍ بين "البيعة" و"المواطنة"

كتب ذات يوم شاعرٌ جزائري كان مُهدَّداً بالقتل، إن لم تكتبْ فأنتَ ميت، وإن كتبتَ فأنت ستموت، إذن أكتبْ ومتْ. وقد مات اغتيالاً في العشرية السوداء بعد هذه الكلمات. فهل اختار الخاشقجي ما اختاره الجزائري؟

لماذا اختفى جمال الخاشقجي ومَن أخفاه أو قتله؟

يصعبُ على المرءِ أن يَمرَّ مرورَ الكِرامِ على اختفاءِ زميلٍ عَمِلنا معه في صحيفةٍ واحدةٍ ما يُقاربُ عقداً من الزمن. كما يصعبُ القولُ إننا كنّا على طرفيّ نقيضٍ، حتى لا يبدو وكأنه تبريرٌ لجريمةِ إخفائِه. وتزدادُ الصعوبةُ لدى الإشارة إلى انخراطِ الزميلِ نفسه في معارك مكشوفة ضدّ محور المقاومة بكافة مكوّناته، إلى حدِ تبريرِ مجازر بشعة في سوريا بحجّةِ العداء للرئيس بشّار الأسد. وتزداد أيضاً إذ يعتبر الزميل نفسه، حتى بعد خروجه من المملكة العربية السعودية، جزءاً من النظام القائم فيها، وإن ما يريده هو مساحة أكبر لقول ما يرغب وما يرى. هذا إذا أردنا أن نُهمل أقوالاً مُرسَلة هنا وهناك من أن جمال الخاشقجي كان يعمل لصالح طرفٍ في العائلة المالِكة وأنه دفع ثمناً باهظاً لذلك.
أما الحديث المُتواتِر عن سيناريوهات تصفية الزميل الخاشقجي بطُرُقٍ وحشيةٍ تنتمي إلى القرون الوسطى، فهو يُثير الغضَب، لأنه ينطوي على رسالةٍ للأحياءِ كي يتجنّبوا انتقاد الحاكِم فيلقون مصير الخاشقجي، حقناً بالمُنَّومِ ومن ثم التقطيع إرباً. هذه الوحشية إن صحَّ خَبرُها، يجب أن تحمل زملاء الرجل أو المرشّحين للتعبير عمّا يدور في بلده، على الشعور بالخوف وباهتزاز الأصابع لحظة اقترابها من "الكيبورد" أو إمساكها بقلمٍ على صفحةِ ورقةٍ بيضاء.
كتب ذات يوم شاعرٌ جزائري كان مُهدَّداً بالقتل، إن لم تكتبْ فأنتَ ميت، وإن كتبتَ فأنت ستموت، إذن أكتبْ ومتْ. وقد مات اغتيالاً في العشرية السوداء بعد هذه الكلمات. فهل اختار الخاشقجي ما اختاره الجزائري؟
حتى لا تبدو الإشارة إلى مواقف الخاشقجي وكأنها حججٌ على جواز اختفائه أو قتله، علينا أن نعود إلى أصل القضية وبالتالي الإجابة عن سؤالين أساسيين إضافةٍ إلى السؤال السابق. لماذا اختفى جمال الخاشقجي ومَن أخفاه أو قتله؟ والثاني هو عن أثر هذا القتل على التعبير الحرّ في العالم العربي وما الموقف الذي يستدعيه؟
عن السؤال الأول نستعين بسياقٍ ذَكّرتْ به "الغارديان" والـ"بي بي سي" البريطانية إذ أشارتْ إلى سلسلةٍ من الحوادث المُشابِهة التي وقعت منذ تسلّم الأمير محمّد بن سلمان ولاية العهد. فقد اختُطِفَ أمراءٌ ثلاثة كانوا يوصَفون بالمُنشقّين ويُقيمون في أوروبا وأُعيِدوا إلى المملكة وهم سلطان بن تركي بن عبد العزيز، وسعود بن سيف النصر، وتركي بن بندر. وأُعِيدَ إلى الرياض أيضاً نواف طلال الرشيد والسيّدة لجين الهثلول الناشِطة النسائية التي كانت تواصل دراستها الجامعية في "أبو ظبي".
هذا الأسلوب ليس بعيداً عن اعتقال 200 متمِّول سعودي واحتجازهم في فندق "ريتز" الشهير ويشبه اعتقال رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري وحَمْلِهِ على الاستقالة، فضلاً عن دُعاةٍ وخُطباء ومُثقّفين تعرّضوا للاعتقال المُفاجىء منذ بداية العام 2017. وتُضيف صحيفة "لوموند" الفرنسية قضية "العوامية" في شرق المملكة ومعالجتها بطُرُقٍ أمنية مُتشدِّدة للغاية. ولعلّ أقصى درجات التشدّد ما رأيناه في الحرب السعودية على اليمن والمآسي التي خلّفتها على غير صعيد، وما أُشيعَ عن مشروع حفر قناة مائية على طول الحدود السعودية القطرية وتحويل قطر إلى جزيرة. هذا فضلاً عن اللهجة الهجومية غير المسبوقة التي يستخدمها وليّ العهد السعودي ضدّ إيران والتي تهدّد بإشعال المنطقة في أيةِ لحظةٍ على حدِ تعبير "لوموند" الفرنسية أيضاً وأيضاً.
إن حَصْر هذه الحوادث في سياقٍ واحدٍ وتزامُنها مع صعود الأمير محمّد بن سلمان إلى ولاية العهد، يُرجّح إلى حدٍ كبيرٍ اختطاف أو اغتيال جمال الخاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول، الأمر الذي ترجّحه أيضاً فرضيّة، المُستفيد من الجريمة.
شخصياً أحسب أن الخاشقجي دفع ثمناً باهِظاً لقراءته الخاطئِة لطبيعة الحُكم في المملكة والذي يقوم على البيعة، فمَن يُبايع ينتمي إلى الرعيّة ولا يحقّ له إنكار حقوق الراعي عليه. ما ينتظره وليّ الأمر من رعيّته هو الولاء وكل ارتداد عن الولاء يقتضي إمّا "تجديد الولاء" وإمّا العِقاب. هذا النظام ليس وهميّاً إنه شرط العلاقة بين الحاكِم والمحكوم في المملكة، وهو محميّ بقراءةٍ وهّابيةٍ واضحة، كما إنه محميّ على الصعيد الدولي بعلاقاتٍ قويةٍ مع الولايات المتحدة الأميركية.
بكلامٍ آخر إن الحاكِمَ يتصرّف إزاء الخارجين على الحُكم ليس بوصفهم مُعارضين وإنما مُنكرين للبيعة، وإنكار البيعة هو عملٌ عدائي وليس فِعل معارضة بالمفهوم الحديث للمعارضة. وفي العداء يستدمج الديني بالسياسي إلى مستوى تضيع معه الحدود.
وأحسب أيضاً أن الخطأ الذي ارتكبه الخاشقجي ويرتكبه كثيرون غيره هو الاعتقاد بأن الإصلاحات التي يعتمدها الأمير محمّد بن سلمان يمكن أن تُرسي قواعد حُكم حديثة على الطريقة الغربية. وتلك فكرة سائِدة في العالم العربي من دون أن تتعرّض للفحص والاختبار بالقدر الكافي. ومصدر الخطأ هو أن الإصلاح في عُرف الأمير السعودي يتمّ من أجل تدعيم أصول الحُكم وليس إضعافها.

إن رؤية 2030 هي في جوهرها تزويد الحُكم بدعائم قوية للمستقبل، وكل حديث عن مَلَكيةٍ دستورية يعني تغيير قواعد وأصول الحُكم، أي ما يعتبره الحاكِم خروجاً على البيعة خاصة إذا ترافق مع خروج من البلاد من دون إذن، كما هي حال الخاشقجي.

ولعلّ البند الأخير في قراءته الخاطئة يكمُن في اعتقاده أن وجوده في الولايات المتحدة وعمله في الـ"واشنطن بوست" يُضفي عليه حماية وضماناً حديدياً وهنا الطامّة الكبرى. ذلك أن بن سلمان لا يطيق وجود أحد رعاياه على مقربة من أُذُنِ السلطة الأكبر والأقوى في العالم، ناهيك عن أن وليّ العهد نفسه قد تحرّر لتوّه من محمّد بن نايف الذي كانت الشائعات تصنّفه في مرتبة الرجل الأول لواشنطن في الرياض وملك الأميركيين المقبل، هذا إذا أردنا إهمال الابتزاز الترامبي المتواصل للمملكة بوجوب أن تدفع كلفة حمايتها.
في المُحصّلة لم يكن جمال الخاشقجي في موقعٍ شبيهٍ بموقعِ الشاعرِ الجزائري المذكور أعلاه. والراجح أنه دفع ثمناً باهظاً لقراءته الخاطِئة لطبيعة الحُكم في بلده ولفرط استناده إلى الضمانات الأميركية ولربما التركية.
وما من شك في أن إخفاء أو اغتيال صحافي هو خبر في غاية السوء بالنسبة لفضاء التعبير الحرّ في العالم العربي بغضّ النظر عن موقع وخطاب هذا الصحافي أو ذاك ومُعتقداته. فما نحتاجه نحن العرب هو اكتناز المزيد من المعارف ونشرها وتوطينها ومُراكمتها حتى ينتج منها تغيير نوعي ننتقل بواسطته من أدنى المراتب إلى أعلاها وهذا لا يتمّ إلا بواسطة التعبير الحر.
في قرونٍ سابقةٍ عندما كان العرب أسياداً كان بلاط الحُكّام يضجّ بالمُثقّفين والمُفكّرين والشعراء يطلب منهم الحاكِم مواجهة القول بالقول ويختار ما يراه مناسباً بعد المُطارحة والنقاش. بعد قرونٍ أصبحنا تابعين وصرنا نواجه القول بالاغتيال والإخفاء وغاب عنا أن الرصاص لا يهزم كلاماً هذا إن لم يزده قوّةً وبأساً.