العلاقات التركية - الأميركية: إلى أين؟
تمرّ العلاقات التركية الأميركية في واحدة من أسوأ مراحلها، فقد وافق الكونغرس الأميركي، على قرار تأخير تسليم مقاتلات "إف 35" إلى تركيا، كما فرض الأميركيون عقوبات على وزيري العدل والأمن الداخلي التركيين، رداً على رفض أنقرة إطلاق سراح القس الأميركي أندرو برونسون، الذي يُحاكم في أنقرة بتهم دعم الإرهاب والاشتراك في محاولة الانقلاب الفاشل عام 2016، وردّ أردوغان بالمثل.
وبينما يشير البعض إلى أن التصعيد الأميركي في قضية برونسون، يعود إلى انتماء القسّ إلى نفس الكنيسة الإنجيلية التي ينتمي إليها نائب الرئيس الأميركي مايك بنس، يشير البعض الآخر إلى حاجة الجمهوريين لأصوات الإنجيليين في انتخابات الكونغرس القادمة في شهر تشرين الثاني / نوفمبر المقبل. وبالرغم من كل هذا التصعيد، وبغضّ النظر عن الأسباب المطروحة أعلاه، فإن ملفات عدّة باتت تثير إشكالية التعاون والتنافر بين الأميركيين والأتراك، فالقضايا التي تدفعهما إلى التوتّر هي نفسها ما يفرض عليهما التعاون، ونذكر من هذه الملفات ما يلي:
- الملف الكردي: يقلق الأتراك من الدعم غير المحدود الذي قدّمه الأميركيون إلى كرد سوريا، وقيامهم بإنشاء قواعد عسكرية لحماية مناطق قسد ما يغري الكرد بالانفصال. لكن، وبالرغم من التوتّر الذي نتج عن هذا الملف، فإن التركي يدرك أنه لا يمكن له ثني الأميركيين عن دعم الكرد السوريين إلا بتقاربه معهم وتقديم خدمات عسكرية في الداخل السوري، تجعل البنتاغون ضنيناً على العلاقة بتركيا أكثر من علاقته بالكرد.
- العلاقة التركية- الروسية، والتي دفعت البلدين إلى التقارب بعد قيام تركيا بالاشتراك في آستانة بصفتها دولة ضامنة، وصفقة "أس 400"، بالإضافة إلى مشروع السيل التركي الذي يهدف من خلاله الروس مدّ الغاز الطبيعي إلى أوروبا ليكون بديلاً عن الأنبوب الأوكراني.
وفي هذا الإطار، يحتاج الأميركيون للتعاون مع الأتراك لتسهيل إمدادات الغاز عبر الخط الغربي (تاناب) الموازي للخط الروسي، والذي من المتوقّع أن ينقل الغاز من أذربيجان إلى أوروبا ويكسر الاحتكار الروسي لإمدادات الطاقة. علماً أن توقيع معاهدة النظام القانوني لبحر قزوين في 12 آب الجاري في كازاخستان بين الدول المُتشاطئة، ستعقّد الأمور أكثر.
- العلاقات التركية - الإيرانية: يتهم الأميركيون الأتراك بمساعدة الإيرانيين سابقاً على الالتفاف على العقوبات الأممية التي فرضت عليهم في الملف النووي، وتشهد محاكم الولايات المتحدة الأميركية محاكمة متورّطين أتراكاً من أفراد وبنوك في هذه القضية. أما اليوم، وبعد إعلان ترامب انسحابه من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات، ودعوته الجميع للانخراط في هذه العقوبات، ردّ أردوغان بأن تركيا غير معنية بما يريده ترامب.
وخشية من فرض عقوبات أميركية على أثر الأحكام المتوقّعة في قضية بنك خلق الحكومي التركي، والتي ورد إسم أردوغان وعائلته فيها، أعلن البنك المركزي التركي (في نيسان / أبريل 2018) أنه سحب كل الاحتياطي التركي من الذهب من النظام الاحتياطي الفدرالي الأميركي، كما حذت حذوه البنوك التركية الخاصة التي قامت أيضاً بسحب احتياطياتها من الذهب، استجابة لدعوة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان " للتخلّص من ضغط سعر العملات واستخدام الذهب ضد الدولار"، وبذلك يكون مجموع ما سحبه الأتراك على مدى سنتين (2016-2017) 220 طناً من الذهب.
_العلاقة مع الصين: أعلنت تركيا صراحة وعلى لسان رئيسها رجب طيب أردوغان، رغبتها الانضمام إلى البريكس، في تكريس واضح لنهج تتمايز فيه عن حلفائها في حلف شمالي الأطسي. ولقد أثار هذا الإعلان حفيظة الأوروبيين والأميركيين، بالإضافة إلى حصول تركيا على حزمة قروض بقيمة 3.6 مليارات دولار، من المؤسّسات المالية الصينية للاستثمار في مجال الطاقة والمواصلات.
يحتاج الأميركيون للأتراك في أية محاولة مستقبلية لاحتواء الصعود الصيني العالمي ولاحتواء تداعيات مبادرة "طريق الحرير الجديد" الصيني، وذلك لِما لتركيا من امتدادات عرقية ونفوذ في آسيا الوسطى، وخاصة في اقليم " تشينج يانغ" الصيني (يسمّيه الانفصاليون تركستان الشرقية)، حيث يعيش "الإيغور" أصحاب الجذور التركية.
وكانت التقارير قد أشارت إلى أن الأتراك قاموا بتدريب الآلاف من الإيغور ضمن ما يسمّى "الحزب التركستاني"، والذي يتواجد بشكل أساسي في محافظة إدلب في سوريا. وكان "أمير" الحزب التركستاني في إدلب (في تشرين الثاني /نوفمبر 2017) قد وجّه تهديداً مباشراً للحكومة الصينية ودعا إلى "الجهاد" ضدها.
إذًا، إنطلاقاً من كل سبق، يبدو من الصعب الاستمرار في القطيعة بين الأميركيين والأتراك بسبب تشابك المصالح، وبسبب الأوراق الهامة التي تملكها تركيا بفعل موقعها الجغرافي المُتميّز، وامتلاكها الكثير من الأوراق الاستراتيجية في كلٍ من الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وتحوّلها إلى "مركز الطاقة العالمي energy hub" حيث يتنافس على خطب ودّها محورا الشرق والغرب معاً. وعليه، سيجد الطرفان (الأميركي والتركي) وسيلة لتخفيف التوتّر المتزايد من دون العودة إلى سابق عهدهما، إذ يفضل الأتراك البقاء في نقطة وسط بين المحورين، بعدما استفادوا من هذا التمايز لتحقيق مصالح تركية صافية.