الديموغرافيا حين تُقاتل مع الفلسطينين !

هذا خطر آخر لم يوله الكيان الصهيوني، بل والطرف العربي والفلسطيني - إلا قليلاً _، حقه من الدرس والتحليل الاستراتيجي، إنه سلاح آخر من أسلحة المقاومة الكبري لدى شعبنا الفلسطيني في مواجهته الممتدة مع الكيان الصهيوني؛ والتي كانت (مسيرات العودة المليونية بشهدائها العظام) أحد أهم نماذجها الحيّة خلال الأيام الماضية؛ إلا أن هذا السلاح ورغم أنه قديم.. إلا أن الحديث عنه يتجدّد كلما رأى العدو تلك الأجيال الجديدة المُتمسّكة بخياره الوحيد خيار المقاومة، ونقصد بهذا السلاح.. سلاح الديمغرافيا؛ سلاح التفوّق العَدَدي لشعب فلسطين ..

يجمع الخبراء الثقاة أن إسرائيل تعيش هذه الأيام (2018) حالاً من الهلع

ليس في الشتات والداخل معاً.. بل – وهنا مصدر القلق الأكبر للكيان الصهيوني _ داخل فلسطين التاريخية؛ ولقد حاولوا - دولة الاحتلال - أن يقاوموه بأساليب عنصرية عفا عليها الزمن؛ مثل الجدار العازِل.. إلا أنهم فشلوا.. وبدأت صرخات التحذير تتزايد مُعلنة أن الخطر لايزال قائماً.. وأنه بات يمثل خطراُ وجودياً وليس أمراً مرحلياً؛ وكان أحدث وأهم تصريح صدر خلال الشهور الماضية هو تصرح رئيس الموساد الأسبق أفرايم هليفي، في 17/04/2018 – حين قال نصاً:( إن التهديد الوجودي بالنسبة لدولة إسرائيل ليس تهديد النووي الإيراني، وإنما اليوم الذي يكون فيه عدد اليهود في البلاد أقل من عدد العرب بين النهر والبحر".

مضيفاً في فعالية نظمّت من قِبَل "منظمة حاخامات تسوهار-التي تعرف نفسها بأنها منظمة صهيونية تشكّلت من مجموعة من الحاخامات بهدف المشاركة في صوغ هوية يهودية دولة إسرائيل"، إنه أدلى بأقوال مماثلة في لقاء مُغلق جمعه مع قادة الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية قبل عدة سنوات، مؤكداً من جديد:"قبل أسبوعين عقدت جلسة للجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، وقدّم نائب رئيس الإدارة المدنية، مندس، معطيات إحصائية جاء فيها أن عدد المسلمين بين البحر والنهر أكبر من عدد اليهود، وذلك استناداً لسجلات الفلسطينيين وإسرائيل، وهي سجلات دقيقة"، موضحاً:" أيضاً إن ذلك يشكل تهديداً وجودياً على دولة إسرائيل لأنها "لم تنه بعد حرب استقلالها، والسؤال الرقمي الديمغرافي مصيري من كل النواحي لمستقبلنا"، مؤكداً: "إن إسرائيل ستصمد عسكرياً، ولكن إذا تناقص العدد فإن التفوّق العسكري لن يكون كافياً بحد ذاته، ولن يكون ذا أهمية بشأن وجودنا القومي على أرضنا، وهذه مأساتنا الكبرى حول هذا السلاح والذي لا فضل لأحد فيه ..فهو بالأصل منحة من السماء لشعبٍ يقاوم في قضية عادلة..

دعونا نؤكّد الاتي: أولا: يجمع الخبراء الثقاة أن إسرائيل تعيش هذه الأيام (2018) حالاً من الهلع ليس فقط بسبب تنامي أشكال المقاومة المسلحة والسلمية (مثل مسيرات العودة ) ولكن وفي العُمق الخوف الوجودي بسبب تنامى الزيادة السكانية الفلسطينية، فقبل قدوم نتنياهو بعدّة شهور، نتذكّر أن العديد من رجال الدولة الإسرائيليين حذّروا (خاصة في مؤتمرات هرتسليا السنوية ) من مخاطر هذه الزيادة السكانية، وكانت تصريحاتهم صدى لتصريح قديم يتجدّد لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أيهود أولمرت بأن ثمة خطراً كبيراً على وجود إسرائيل إذا ما ظلّت دولة واحدة لشعبين: يهودي وفلسطيني، حيث سيؤدّي ذلك في سنوات قليلة إلى خطرٍ داهمٍ على الهوية اليهودية للدولة، وإلى ذوبان الوجود اليهودي وسط أغلبية سكانية عربية، وأن الحل وفقاً له هو الفصل الكامل بين (اليهود) والفلسطينيين، وأنه ليس لديه تصوّر مُتكامل ودائم في هذا الصدد، مضيفاً ومكرّراً تحذيره أنه (إذا تعاملت إسرائيل مع حقيقة دولة واحدة لشعبين فإن هذا سيعجل بنهاية إسرائيل كدولة يهودية وهو ما يُعدّ خطراً لا يمكن لأحد أن ينكر وجوده ومدى واقعيته!!).

هذه المخاوف التي أطلقها رئيس وزراء الكيان الصهيوني،الأسبق ، تولّدت عنها، محاولات للتحليل المُعمّق للخطر الوجودي ومحاولة التصدّي له ولعلّ من أبرز المحاولات القديمة (لكنها تعد بمثابة المرجع الأكبر لكل الخائفين من النخبة الصهيونية بشأن القنبلة الديمجرافية ) والتي تمت في هذا السياق ما اصطلح على تسميته بوثيقة سوفير والمعنوَنة بـ (إسرائيل ديموغرافيا: 2000ـ2020: مخاطر واحتمالات) والتي انتهت بعد دراسة موسّعة وموثّقة نشرت عام 2000 إلى أن 42% فقط من اليهود، مقابل 58% من العرب، سيعيشون في المنطقة الواقعة بين الأردن والبحر في سنة 2020، من مجموع 15.2 مليون نسمة، لذلك استنتج محذراً أنه من دون الفصل، سيختفي الكيان الصهيوني عن الخريطة خلال سنوات؟ !وقال أيضاً محرضاً "الساعة الديموغرافية حول إسرائيل تتسارع بوتيرة الفهد، بينما يتسارع اتخاذ القرارات القومية بوتيرة السلحفاة، في أحسن الأحوال"! وكان يقصد بالطبع تزايد نسبة المواليد العرب في الأرض المحتلة عام 1948م وخارجها، واستنتج ما يلي: "بإمكان النزاع أن يتواصل، لكننا نتناقص مع المزولة (الساعة الرملية) الديموغرافية، لذلك يجب على إسرائيل اتخاذ قرار شجاع وصعب للغاية، والمبادرة بفصل أحادي الجانب".
وواضع هذه الوثيقة هو أرنون سوفير أستاذ الجغرافيا في جامعة تل أبيب وقد تلاه العديد من السياسيين والخبراء ورجال المخابرات الإسرائيلية (مثل البرفيسور دي لافرجولا- ومثل المركز متعدّد الاتجاهات في هرتسليا – فضلاً عن الخبراء العسكريين في صحيفتي معاريف وهآرتس .. وغيرهم ). وكان جدار الفصل العنصري هو أحد أبرز نتائج هذا الهلع الصهيوني . ولكنه كما أشرنا لم يكف لإزالة المخاوف الوجودية لدى حكام هذا الكيان ، والذين ما فتئوا يثيرون المسألة ومخاطرها وكان إفريام هليفي آخر المتحدّيثن بهلع في هذا الصدد !

ثانياً: إذا كانت تلك بعض تجلّيات القنبلة الديموغرافيا الفلسطينية والتي تمثل في أحد أوجهها ؛ سلاحاً إلهياً في يد الفلسطينيين .. السؤال كيف يوظّفون هذا السلاح في معركتهم (التي هي ممتدة ومركّبة بحُكم طبيعة الصراع )؟ إن الامر ينبغي له أن يتعدى الارتكان إلى الأمور القدرية (والإلهية) إلى ضرورة بناء استراتيجية ذات أبعاد سياسية وإعلامية فعّالة توظّف هذا الكمّ البشري الفلسطيني سواء مَن هم في الشتات أو مَن هم داخل فلسطين وتحديداً من أبناء 1948 ؛ والذين بقوا في أرضهم بشجاعة ولم يغادروها بل وتزايدوا عدداً ووعياً وصلابة ؛ مطلوب من واضعي تلك الاستراتنيجية .. أن يحوّلوا هذه الزيادة العددية للفلسطينيين إلى مصدر قوة مؤثر في مسار الصراع . وطبعاً ياحبذا لو لم يكن من بين من يضع تلك الاستراتيجية ؛ أصحاب خيار أوسلو وأخواته من اتفاقات التسوية الفاشلة، لأن هؤلاء هم أول مَن أضرّ بكل عناصر القوّة في المجتمع الفلسطيني بل وحوّلوها إلى نقاط ضعف وإذلال ، وفي مقدمة ما أساؤوا استثماره هو هذه القنبلة الديمغرافية ، والحديث عن سياساتهم وغدرهم بها يطول..

لكن المهم هنا هو أن يضع استراتيجية إعلاء نقاط القوّة في خيار المقاومة الفلسطينية هم أبناء المؤسّسات والفصائل المجاهدة والذين قدّموا عبر سني الصراع خيرة أبنائهم شهداء وجرحي وأسرى .. إن في يدهم اليوم عنصر قوّة جديد يحتاج إلى تنظيم وتفعيل وإعادة استثمار في الاتجاه الصحيح ولا ينبغي لهم أن يهملوه أو أن يوكله إلى غير أهله المقاومين . ونحسب أن الهلع الصهيوني المتنامي من هكذا سلاح ؛ سلاح القوة السكانية الفلسطينية خاصة داخل فلسطين ، أدعى إلى أن يدفع في اتجاه بناء استراتيجية قادرة وواعية بقيمة هذا السلاح الوجودي .. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .