ما هي مفوضيّة شتراوس لحقوق الإنسان

حقوق الإنسان ليست مُطلقة ولا تُقاس بالمقياس نفسه عند كل الشعوب، فهذه الحقوق تنتهي بالنسبة للمتروبولات الرأسمالية حيثما تتهدّد مصالحها، ويصبح الاعتداء على هذه المصالح أو أدواتها ومرتزقتها خطيئة مقدّسة يُعاقب عليها بالمذابح، وتصبح الشعوب والقوى المُستهدَفة مُستباحة، باعتبارها وفق الجذر التوراتي والداروينية الاجتماعية البريطانية والأميركية كائنات لا ترقى إلى مستوى البشر، فيحل قتلها وسفك دمها.

إذا كان هناك مَن يستحق المحاسبة أمام المحكمة الجنائية الدولية، فهم رُعاة الإرهاب التكفيري

أظهرت التوظيفات السياسية لمفوضيّة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة وحملاتها ضد دول بعينها، مثل سوريا وفنزويلا وكوريا الديمقراطية، أن إدارة هذا الملف لا علاقة لها البتّة باستراتيجية عامة، حيث تصمت المفوضيّة صمتاً مُطبقاً إزاء الدول والانتهاكات التي تجري في بلدان لا تصنّفها المتروبولات الرأسمالية في عِداد الدول المُشاكِسة، ومنها دول لم تعرف الأحزاب والنقابات والدساتير والحريات السياسية حتى اليوم، وذلك فضلاً عن رفض الإدارات المُتعاقِبة للمفوضية لمطالب مُتكرّرة تدعو عواصم الاستعمار القديم والجديد إلى الاعتراف بالفظائع التي ارتكبتها ضد المستعمرات والتعويض عنها.

وهي ليست مطالب بسيطة بالنظر إلى ملايين القتلى والضحايا التي نجمت عنها، ومنها ما يخصّ الذين خلّفتهم الفظائع الفرنسية والبريطانية والأميركية في الجزائر والعراق وفيتنام وأفريقيا وأستراليا، ومنها فظائع الشركات الأميركية والأوروبية خلال حرب الماس في رواندا وبورندوي التي أدارتها بالوكالة ميليشيات وعصابات مسلّحة محسوبة على هذه الشركات.

ويُشار كذلك إلى مذابح الانقلابات العسكرية المُدارة من المخابرات الأميركية ضد حكومات مُنتخَبة في تشيلي وغواتيمالا والسلفادور، وكذلك مقتل مليون أندونيسي في انقلاب مُماثل ضد الرئيس أحمد سوكارنو.

كما يُشار أيضاً إلى عدم اعتراف بلدان عديدة ومنها تركيا بالمذابح المروّعة التي راح ضحيّتها مليون أرمني، وعدم اعتراف الكيان الصهيوني بآلاف الضحايا في مذابح دير ياسين وقبية وكفرقاسم والطنطورة ومدرسة بحر البقر وقانا وغيرها.

وجميع ما ذُكِر من مذابح، تحوّل إلى ملفات يعلوها الغبار في مكتب المفوضية، ويمنع فتحها أو إثارتها.

وديدن المفوضية في كل ذلك، ومنذ تأسيسها، أن الملفات تُفتَح في حالٍ واحدة وحيدة، عندما تكون جزءاً من حملة أميركية أو بريطانية أو فرنسية.

فدول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية ودولة العدو الصهيوني والرجعيات والدكتاتوريات التابعة لها، غير مشمولة أبداً بملفات كهذه.

وفي الحقيقة، فهذه السياسة ليست بلا تاريخ وخلفيّة آيديولوجية أيضاً، فكما نشأت منظمات مثل البنك وصندوق النقد الدوليين لضمان مصالح المتروبولات الرأسمالية وإدارة حرب مالية مفتوحة ضد البلدان الاشتراكية السابقة وقوى ومراكز التحرّر الوطني والقومي، نشأت هيئات دولية أخرى بإسم حقوق الإنسان المزعومة وراحت تتبادل الأدوار مع هيئات حكومية وغير حكومية مموّلة من المخابرات الأميركية والبريطانية، مثل إذاعة أوروبا الحرّة والعديد من المنابر الحرّة وحيثما وجدت منظمات تتّخذ من كلمة حرّة وحرّ وحرية أقنعة لها.

ويظهر كتاب المؤرِّخة والباحِثة البريطانية سوندر "من يدفع للزمار" وكذلك كتابات المؤرِّخ والباحِث البريطاني كورتيس الدور الكريه الذي لعبته هذه المنابر خلال سنوات الحرب الباردة، من دون أن تتعرّض مرة واحدة لأية انتهاكات في البلدان والعواصم المُدارة من أقلام الاستخبارات الأطلسية.

هذا عن التاريخ السياسي للمفوضية وصمتها عن كُبرى المذابح والفظائع المُرعبة للعالم الحر، عالم الرأسماليات في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.

أما الخلفية الفكرية أو الآيديولوجية لما سبق، فأستاذها ومهندسها الأعظم هو الأميركي، ليو شتراوس، صنو أو ثنائي الليبرالي الاقتصادي، فون هايك، ويعود كلاهما، كما يقولان هما أنفسهما إلى الإنكليزي ميل والداروينية الاجتماعية وجذرها التوراتي "الغوييم".

فحسب هذه المرجعيات، فإن حقوق الإنسان ليست مُطلقة ولا تُقاس بالمقياس نفسه عند كل الشعوب، فهذه الحقوق تنتهي بالنسبة للمتروبولات الرأسمالية حيثما تتهدّد مصالحها، ويصبح الاعتداء على هذه المصالح أو أدواتها ومرتزقتها خطيئة مقدّسة يُعاقب عليها بالمذابح، وتصبح الشعوب والقوى المُستهدَفة مُستباحة، باعتبارها وفق الجذر التوراتي والداروينية الاجتماعية البريطانية والأميركية كائنات لا ترقى إلى مستوى البشر، فيحل قتلها وسفك دمها.

ومن المؤسف الإشارة هنا، إلى أن الحضارة الإغريقية القديمة المصادرة من قِبَل الرأسمالية المُعاصرة، حافلة بالمرجعيات الإضافية التي تحرم العمال كانوا من عمال المحاجر والموانىء، والنساء والغرباء من الحرية وحق التصويت والانتخاب.

لذلك كله، ليس هناك ما هو مفاجىء لا في موقف المفوضيّة ولا في مواقف الدول المُعادية المعروفة، لسوريا وفنزويلا وكوبا، ولا من أية دولة أو جماعة ترفع صوتها عالياً ضد الهيمنة الأطلسية وأدواتها، وليس على الدول التي ترفض الانصياع للابتزازات والإملاءات الأميركية والبريطانية والأطلسية عموماً، أن تتوقّف طويلاً عند هذه المحافل، ولا أن تبحث عن مقعد لها بينها.

فحقوق الإنسان سلّة واحدة مُتكامِلة، تتجلّى الحريات السياسية فيها بالحق في الخبز والعِلاج والعمل والدراسة المجانية في كل المراحل، والإبداع الثقافي، والحق في مقاومة الامبريالية والرجعية والصهيونية، والسيادة على الأرض والقرارات الوطنية.

وإذا كان هناك مَن يستحق المحاسبة أمام المحكمة الجنائية الدولية، فهم رُعاة الإرهاب التكفيري ومَن يغطّون هذا الإرهاب بذرف دموع التماسيح والتلطّي خلف الأراجيف والأكاذيب، سواء عبر محافل هيئة الأمم والمحافل الدولية أو عبر المنابر الإعلامية...