يوم الأرض
لقد أصبح واضحاً اليوم، وبعد سبعين عاماً من احتلال استيطاني استعماري غاصب لأرض فلسطين، أنّ الأرض هي المبتدأ والمنتهى، وأنّ الأرض هي القصة الحقيقية، وهي الهدف الذي يبغون حيازته، ويرتكبون في سبيل ذلك أبشع المجازر عبر التاريخ.
لقد انتفض الشعب الفلسطيني من أجل حماية أرضه مرّات عديدة حتى وقعت نكبة عام 1948، وقدّم التضحيات والشهداء منذ ثورته عام 1969، وانتفض في 30 من آذار/ مارس عام 1976 وقدّم الشهداء، وها هو ينتفض اليوم في 30 آذار/ مارس عام 2018 ويقّدم الشهداء ليقول إنّ هذه الأرض لنا، وإننا أصحابها الحقيقيون الشرعيون. ومن الواضح خلال هذا التاريخ أنّ الكيان الصهيوني يريد أرضاً بلا شعب، تماماً كما فعل الاستعمار الاستيطاني في الولايات المتحدة الأميركية وفي نيوزيلندا وأستراليا وكندا، وكما أراد المستوطنون الفرنسيون في الجزائر، والبريطانيون في جنوب أفريقيا، فأبادوا السكان الأصليين تماماً في أميركا الشمالية وأستراليا، وشوّهوا صورتهم في كتب التاريخ، ودفنوا حضارتهم وثقافتهم ومعتقداتهم، واستوطنوا تلك الأرض، وأتوا بالمهاجرين البيض ليحتلوها ويمتلكوا كلّ ثرواتها الخيّرة. وإلى يومنا هذا لم يُنصف أحد حضارات الشعوب الأصلية، التي كانت غنيَة بثقافتها وفنونها ومعتقداتها، لأنّ المستوطنين هم الذين كتبوا التاريخ، وهم الذين سوّقوا هذا التاريخ في كلّ أنحاء العالم، بحيث أصبحت الصورة الوحيدة المتاحة عن حضارات شعوب المايا والأنكا والأبورجينز، وغيرها من حضارات كثيرة عديدة، هي الصورة التي قدّمها المستعمرون والمستوطنون الذين قاموا بإبادتهم والاستيطان على أنقاض حضارتهم. وهنا لا بدّ من التأكيد أنّ المهمّ ليس الانتصار فقط إنما كتابة تاريخ هذا الانتصار.
واليوم نشهد مسرحاً مماثلاً جداً في فلسطين، حيث تقضم سلطات الكيان الأرض الفلسطينية شيئاً فشيئاً، وتُصدّر على مدى عشرات السسنين كلّ القوانين التي تمكّنهم من سرقة هذه الأرض من أصحابها الشرعيين، وتهجير الشباب والأبناء، وعدم السماح لهم بالعودة، وفي المقابل استقدام المستوطنين من كلّ حدب وصوب ليحلّوا محلّهم. نحن نشهد اليوم استيطاناً شبيهاً جداً بالاستيطان الذي حلّ في أميركا الشمالية وكندا وأستراليا منذ مئتي عام ونصف، والغريب في الأمر أنّ بعض أصحاب الحقوق في شرقنا الأوسطي ينتظرون من المستوطنين الغربيين أن يساندوهم في نيل حقوقهم. إن كان هناك من أمر فإنّ المستوطنين الغربيين يساندون المستوطنين الإسرائيليين لأنهم يرونهم شبيهين بهم، ويسيرون على خطاهم، فكيف يمكن لهم أن يتفهموا صاحب الحقّ، وصاحب الأرض، وهم الذين حاربوه وقتلوه وأبادوه في ديارهم لتكون بلدانهم كما هي عليه اليوم، بل على العكس هم يتفهّمون العقلية الاستيطانية الإسرائيلية وحلمها في أن تكون فلسطين أرضاً لها من دون أيّ أثر للشعب الفلسطيني، أو للتراث الفلسطيني، أو للثقافة والتاريخ والجذور التي يعملون على اقتلاعها في كلّ قانون أو تشريع يصدر بهذا الصّدد. ولايزال الفلسطينيون للأسف، يواجهون كلّ هذا المخطط بعفوية، وبصدور الشباب العارية، وبمسيرات الناس العزّل الذين يقعون ضحايا البطش الاستيطاني، ليضاف إلى قائمة الشهداء شهداءٌ آخرون يروون تراب فلسطين بدمائهم. ومع كلّ اعتزازنا وفخرنا بروح الانتماء التي تدفع الشباب للدفاع عن الأرض حتى الشهادة. لكن هل هذا هو الأسلوب الناجع لاستعادة الأرض؟ وهل تمكّن الشهداء بدمائهم الذكية من تغيير المعادلة في هذا الصراع؟ أم أنّ قضم الأراضي مستمرّ بحيث لم يعد الفلسطينيون يملكون أكثر من 15% من أرض فلسطين التاريخية؟ السؤال المؤلم اليوم: ألا يتوجّب على الفلسطينيين والعرب إعادة النظر باستراتيجياتهم وآلياتهم من أجل صون الحقوق وتحرير الأرض؟
إنّ إلقاء الضوء على تجربة الشعب اللبناني في جنوب لبنان بعد احتلال أرضه، وتشبّثه بالبقاء في دياره إلى أن تمكّن من تحرير هذه الأرض عام 2000، تثبت أنّ عدم النزوح من الأرض، حتى وإن مكث على صدرها معتدٍ محتلّ، هو الأسلوب الأنجع لاستعادة هذه الأرض، وأنّ النزوح عنها هو بالضبط ما يريده الطامعون في هذه الأرض، والمخطّطون للاستيلاء عليها. وهذا ما استنتجه كثير من الفلسطينيين ولكن بعد النزوح الكبير عام 1948، والنزوح عام 1967. ومن الواضح من القصص التي سمعناها عن هذا النزوح أنّ المستوطن الإسرائيلي كان يهدف إلى ترويع السكان حتى قبل أن يصل إليهم، ويهدّدهم من خلال مكبّرات الصوت ويدعوهم إلى مغادرة قراهم وبساتينهم ومدنهم فوراً. غادر كثيرون منهم وهم يظنّون أنهم عائدون بعد بضعة أيام. إذاً لم تكن هناك درجة من الوعي ولا قيادات حقيقية لتقوم بخطوات مضادّة لخطوات المستوطنين، وتعمل على تثبيت السكان في مواقعهم، بينما توفّر هذا عام 1982 في لبنان. ربما مستفيدين من الدرس الفلسطيني، ولاسيما أنّ أهل الجنوب كانوا هم من استقبل النازحين الفلسطينيين عام 1948، وشهدوا على معاناتهم. الوعي والقيادة أمران أساسيان في خوض المعارك، عسكرية كانت أم سياسية، بوقت أقصر وأثمان أقلّ. واليوم يعمل الكيان الصهيوني جاهداً على إلغاء حقّ عودة الفلسطينيين وعلى تغييب الشاهد الأخير على هذا الحقّ، ألا وهي منظمة الأونروا. لذلك لا بدّ من وضع الخطط، وتكثيف الجهود، وجمع الأموال والتبرعات كي تبقى هذه المنظمة قادرة على العمل، وشاهداً حياً على اللجوء وحقّ عودة الفلسطينيين. في يوم الأرض نُحَيّيْ كلّ شهداء فلسطين وسوريا ولبنان والعراق واليمن، وعلى امتداد جغرافيا هذا الوطن العربي، ونقول من أجل هذه الأرض لا بدّ من تطوير آليات العمل، ووضع الاستراتيجيات التي تحافظ عليها وتضمن ازدهارها على يد أبنائها الأصليين المخلصين، وتصدّ عتها كلّ معتدٍ وطامع ومستعمر.