ذكرى الوحدة السورية ــ المصرية التي نحروها
كان هذا الخطاب بمثابة أمل طاغ حلمت به الشعوب العربية قرونا، وتوقع كثيرون أن ظلال الوحدة ستمتد على باقي الدول العربية، فقد توقع مثلاً الكاتب الصحفي المصري الراحل مصطفى أمين في حوار إذاعي قديم له أن يكون في عام 2000 وجود الولايات المتحدة العربية، وكان أكثر المتشائمين يعتقدون أن الوحدة ستشمل العراق على الأقل، في كيان الجمهورية العربية المتحدة الوليدة، وتعاظم الأمل في محاربة الكيان الصهيوني، والانتصار عليه، ومن ثم عودة الفلسطينيين إلى ديارهم، خاصة وأن القدس الشرقية والضفة الغربية بأسرها، كانت مازالت تحت رعاية الدولة الأردنية الهاشمية.
عندما تم إعلان الوحدة بين مصر وسوريا يوم 22 شباط/فبراير عام 1958، ابتهجت الشعوب العربية من أقصى المحيط إلى أقصى الخليج، وفي 24 شباط/فبراير 1958، ألقى عبد الناصر خطابا من منزل الرئيس شكري القوتلي بعد إعلان الوحدة قال فيه "أيها المواطنون السلام عليكم ورحمة الله، إنني أشعر الآن وأنا بينكم بأسعد لحظة من حياتي، فقد كنت دائماً أنظر إلى دمشق وإليكم وإلى سوريا وأترقب اليوم الذي أقابلكم فيه، والنهاردة (اليوم باللهجة المصرية).. النهاردة أزور سوريا قلب العروبة النابض، سوريا اللي حملت دائماً راية القومية العربية، سوريا اللي(التي باللهجة المصرية) كانت دائماً تنادى بالقومية العربية، سوريا اللي كانت دائماً تتفاعل من عميق القلب مع العرب في كل مكان، واليوم أيها الإخوة المواطنون حقق الله هذا الأمل وهذا الترقب وأنا ألتقى معكم في هذا اليوم الخالد، بعد أن تحققت الجمهورية العربية المتحدة".
كان هذا الخطاب بمثابة أمل طاغ حلمت به الشعوب العربية قرونا، وتوقع كثيرون أن ظلال الوحدة ستمتد على باقي الدول العربية، فقد توقع مثلاً الكاتب الصحفي المصري الراحل مصطفى أمين في حوار إذاعي قديم له أن يكون في عام 2000 وجود الولايات المتحدة العربية، وكان أكثر المتشائمين يعتقدون أن الوحدة ستشمل العراق على الأقل، في كيان الجمهورية العربية المتحدة الوليدة، وتعاظم الأمل في محاربة الكيان الصهيوني، والانتصار عليه، ومن ثم عودة الفلسطينيين إلى ديارهم، خاصة وأن القدس الشرقية والضفة الغربية بأسرها، كانت مازالت تحت رعاية الدولة الأردنية الهاشمية.
ولكن ككل الآمال العظام، لم تبلغ دولة الوحدة عامها الرابع حتى انهارت في يوم 28 أيلول/سبتمبر 1961، كما فشل أي مشروع وحدة، فقد حاولت مصر الاتحاد الكونفدرالي بين مصر وسوريا والعراق، وفي عصر الرئيس أنور السادات حدثت محاولات غير طبيعية باءت بالفشل، بين مصر وليبيا وسوريا، أو بين هذه الدول الثلاث ومعهم السودان، كله فشل.
وقد فشلت الوحدة السورية المصرية بالفعل لأسباب متعددة، ولكن ظل الأمل الوحدوي قائماً وبارزاً، فقد ظل المشروع العروبي بقيادة جمال عبد الناصر متوهجاً، ولكنه كان مُحاصراً صهيونياً وعربياً خليجياً وخارجياً من قبل الدولة الأميركية، ومعها الدولتان الاستعماريتان القديمتان بريطانيا وفرنسا، كلهم أيقنوا أن الوحدة تجهض أي مشروع استعماري، لأنهم يعلمون أن حالة الوحدة بين الشام ومصر، تُعتبر حالة فريدة تاريخيا وحضاريا واجتماعيا ودينيا، فعندما تتوحد الدولتان يحدث النصر كما حدث في الحروب الصليبية والمغولية، والعكس يحدث عند الفرقة، والدولة الصهيونية تعلم أن وحدة مصر وسوريا مقدمة لهزيمتها، فسعت جاهدة على أن تكسر مشروع الوحدة، ومعها ساحة الرجعية العربية.
وقد أقامت الدول الغربية ما عُرف بالاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن في شباط/فبراير عام 1958 تزامناً مع إعلان وحدة مصر وسوريا، وذلك من أجل الوقوف في وجه الاتحاد المصري السوري، أي كانت حرباً سياسية أو بين فكرة رجعية وأخرى ثورية، بالإضافة إلى أسباب داخلية في الإقليمين الشمالي والجنوبي، فقد حدث نوع من التفرقة بين المواطنين، فصار السوريون الذين حملوا سيارة الزعيم عبد الناصر هم من أرادوا الانفصال، بعد أن شمل تأميم الممتلكات في الإقليم السوري كما حدث في الإقليم المصري، وهو ما رفضه رجال الأعمال السوريين، كما أن العناصر السياسية في سوريا كالرأسمالية والأقليات (كالتركمان والأكراد وغيرهم)، والمعسكر الشرقي والشيوعية العربية، كلها كانت تصب في خانة الانفصال، ولا ننسى أن وجود الدولة الصهيونية كان عائقاً طبيعياً يمنع التلاقي العروبي بين الإقليمين العربيين، كل تلك الأسباب ساعدت وبسرعة في انهيار الوحدة، صحيح أن الجمهور العام والضمير الشعبي كان يحب الاستمرار في الوحدة، ولكن حرب الشائعات، والتمويل والتدخل الأميركي، أدى كله إلى فشل الوحدة، يقول محمد حسنين هيكل غي كتابه "ماذا جرى في سوريا"، الصادر عام 1963: "إن رموز الانقلاب على الوحدة وهم حيدر الكزبرى الذى كان بمثابة خزينة الانقلاب، هو أيضاً الذي حاصر المشير عبد الحكيم عامر بالمدرعات في بيته وفتح نيران المدافع على البيت، فيما كان المشير في مقر القيادة، ومن زعماء الانقلاب أيضاً عبدالكريم النحلاوى وهو مدير مكتب القائد العام لشؤون الجيش الأول وقد كان من قادة الانقلاب رغم كونه موضع ثقة لعبد الحكيم عامر".
وهنا تبدو أن حالة الثقة في بعض الأشخاص، ماثلت حالة فريدة من الانهيار السياسي ثم العسكري، ثم الانفصال، وكان من نتيجة الفشل هزيمة عام 1967، واحتلال أراضي ثلاث دول عربية، وعندما حدث نوع من التضامن العربي قبيل وأثناء حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، تيقنت الإدارات الأميركية أن تفتيت المنطقة هو المقدمة لدوام التنازع فلا تقوم قائمة لأي دولة، لا وحدة ولا تضامن ولا حتى تنسيق عربي عربي، وربما حاول الملك فيصل في بادرة غير مألوفة على المستوى السعودي المناهض للوحدة بين مصر وأي دولة عربية، ربما جعلته بتزعم منع النفط عن دول تساعد إسرائيل، فتم اغتياله يوم 25 آذار/مارس 1975، وهو الاغتيال الذي تم التعتيم عليه حتى الآن، لا نعلم من خطط ومن غسل رأس الأمير القاتل ليقتل عمه الملك.
ما يعنينا في هذا الأمر كله، هو أن الدول العربية بعد ستين عاماً من توقيع الوحدة بين أشقاء الشام ومصر، هم من نفس جنس العرب الذين يحاربون بعضهم البعض، وصار التقارب العربي مع الصهيونية لا يمثل عاراً، ولا يؤنب ضميراً، رغم أن الجميع يعلمون يقينا بالمؤامرة التي نُسجت وتُنفذ خيوطها بالأيادي العربية.
ويبدو التساؤل حائراً، ألا يوجد أمل في فترة تضامنية وحيدة بين العرب، فضلاً بين المسلمين، هل من أمل في كبح جماح الصهيونية والطائفية والعنصرية التفريقية والفتن بأنواعها، وهي أسئلة مشروعة في زمن مجروح، ولكنه تساؤل يقودنا لمواصلة التفكير في من يملك المشروع الداعي للتجمع والتقريب، ومن ثم للأمل.
هنا نعود لفكر وروح المقاومة، ومحاربة الفكر التكفيري، ضد الصهيونية والاستعمار.
إن من ينقذ الأمة من نفسها، هو روح الدين الإسلامي الثوري، الذي يرفض الظلم والاستكبار، فآفة البشر هو الكبر والطغيان، ولا ننسى أن نقول إن إبليس اللعين لم يكن مشركا أو كافرا، ولكنه كان مستكبراً، فخرج من جنة الله، وهو ما لا نرضاه لأنفسنا، هذا إن كان لنا قلب أو ألقينا السمع ونحن شهداء.