بعد شهر على انتفاضة القدس: يا وحدنا .. !!
قرار ترامب، بنقل السفارة، وباعتبار القدس عاصمة لفلسطين، ليس سوى البداية في سلسلة طويلة من الإجراءات والخطط، لما أسماه هو بـ(صفقة القرن)، أي إنهاء القضية الفلسطينية من جهة، وإخضاع الإرادة العربية بالكامل لأميركا، واعتبار هؤلاء الحكّام ودولهم تماماً، مثل قضية الهنود الحمر، من جهة ثانية.
الآن وقد مرّ قرابة الشهر على انتفاضة القدس التي أتت إثر إصدار الرئيس الأميركي دونالد ترامب (يوم 6/12/2017)، قراراً بنقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة، اعترافاً منه بأنها عاصمة للكيان الصهيوني؛ وهو القرار الذي أشعل الغضب الشعبي والرسمي عالمياً، وتوّج هذا الغضب، بقرار للجمعية العامة للأمم المتحدة برفض نقل السفارات – عموماً - إلى القدس وتغيير طابعها أو مركزها أو تركيبتها الجغرافية وحاز موافقة 128 دولة وجاء القرار بعد استخدام واشنطن (لحق الفيتو) في مجلس الأمن في مواجهة 14 دولة، كانت ترفض نقل السفارة واعتبار القدس عاصمة لدولة واحدة هي الكيان الصهيوني، بدلاً من دولتين (إسرائيلية، وفلسطينية) وفقاً لرؤيتهم.
هكذا جرت الأمور.. على مدار شهر كامل ..
الآن وبعد أن تراجعت حدّة التظاهرات العربية والإسلامية، وتقلّصت مساحة الاهتمام الإعلامي، وغسل القادة والأحزاب والمؤسّسات العربية أيديهم من القدس معتبرين أن قراراً دولياً يصدر من الأمم المتحدة، كاف، الآن، أضحى الفلسطيني، حاله تماماً كما قال أحد شعرائه الكبار ذات يوم :
يا وحدنا !!
أو كما قيل للنبي موسى (ص) ذات يوم، من بني إسرائيل ذلك الزمان: [فَاذْهَبْ أَنتَ ورَبُّكَ فَقَاتِلا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ] (آية 24 سورة المائدة).
حول هذا المآل الذي وصلنا إليه دعونا نسجّل ما يلي:
أولاً: إن الحال العربية والإسلامية الرسمية اليوم تجاه قرار ترامب، لم تغيّر من الأمر شيئاً. بل ازداد عناداً، ووقاحة، لماذا ؟ لأن الرجل، الذي سبق ووصفناه بـ (الرئيس البلطجي) في مقال سابق؛ لا تستقيم مخاطبته، ومقاومته سوى بلغة وحيدة يفهمها وهي هنا لغة القوّة وتهديد المصالح، قطعاً لهذه الإدانات والقرارات الدولية، رمزيتها الأدبية وقيمتها المعنوية، لكنها لا تتعدى ذلك، خاصة مع دولة مثل الولايات المتحدة؛ خلقت خلقاً على جثث وأرواح شعوب أخرى، (الهنود الحمر نموذجاً) وصنعت بعقلية المغامر و(الكاوبوي)، الذي لا تحكمه (القِيَم) بل المصالح والمنفعة؛ بهذا المعنى، ثمة العديد من أوراق القوّة كانت – ولاتزال – بأيدي الحكّام العرب والمسلمين أبسطها قطع العلاقات الدبلوماسية وطرد السفراء، وصولاً إلى وقف تصدير النفط، واستيراد السلع الأميركية من المنبع، وتجميد الاتفاقات العسكرية وإغلاق قواعدها المنتشرة في دولها، وغيرها من الوسائل، لكنهم لم يستخدموها، وخاصة دول الخليج العربي وتركيا، وهم الأكثر تأثيراً في العلاقات مع واشنطن.. إذن لماذا سيتراجع الرجل، وهو لم ير سوى بيانات شجب وقرارات إدانة؛ وخطب عصماء منزوعة القيمة من حكّام ونخب بلادنا ؟! .
ثانياً: على المستوى الشعبي العربي والإسلامي وهو المستوى الذي تم التعويل عليه ليضغط وبقوة من أجل أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين (القدس !!) كان أقصى ما قدّمه هو بضع تظاهرات هنا وهناك، وبرامج فضائيات وتجارة رابحة بنضال (عهد التميمي) الطفلة التي عرّت، هذه الشعوب وتلك الحكومات، قبل أن تعرّي الاحتلال، بعفويتها وبراءة نضالها وصمودها هي وأسرتها الصامدة المُضحية.
أقصى ما قدّمته قوانا الشعبية وأحزابنا السياسية والنقابية ومفكّرونا وصحافتنا وكتابنا (وأنا منهم وأدين نفسي أيضاً)، هو (مسيرات غضب) في شوارع جميلة، وهتافات صاخبة مع تكشيرة وجه؛ ثم عودة إلى المنزل لتناول طعام الغذاء في سكينة وهدوء !! هل ذهبت تلك التظاهرات – مثلاً!!- لتحاصر وتقذف بالبيض والطماطم – سفارات واشنطن وليس بالحجارة لأنها قد تتحوّل إلى قضية جنائية .. أو لأنها صعبة جداً على المثقفين والنشطاء الناعمين ؟! هل قام من بين المتظاهرين مَن حاول إنزال العلم الأميركي (أو الإسرائيلي) في البلاد التي ابتليت بعلاقات دبلوماسية معها وحرقه مثلاً ؟! هل تحوّلت المساجد والحسينيات إلى بؤر عمل على مدار الساعة لإصدار الفتاوى الجهادية الحقّة المستمرة وليست المرتبطة بالمناسبة فقط وإعلانها أن التطبيع حرام، والعلاقات مع أميركا، تدخل حكامنا النار (مثلاً !!) ؟ هل جرؤ الأزهر والحوزات العلمية الشيعية في العراق (مثلاً) للأسف لم يحدث !! حتى لجان وقوى مقاومة التطبيع، لم ترق على المستوى العربي والإسلامي العام إلى المستوى المطلوب .
لقد اعتبروا أن مجرّد تظاهرات هنا وهناك، وبيانات الإدانة وتغليظ الصوت، عبر الميكروفونات، والنضال عبر برامج "التوك شو" ثم العودة بسلام للمكاتب المكيّفة، والبيوت الآمنة؛ هو إبراء كامل للذمّة !!.
وسط هذا جميعه .. ألم يكن للفلسطيني الحق، في أن يصرخ بعد شهر على انتفاضته، كما كان يصرخ طيلة الـ 70 عاماً الماضية : يا وحدنا ؟!
ثالثاً: على مستوى حركات المقاومة العربية (الفلسطينية وغير الفلسطينية) رغم التقدير الكامل لتاريخها وتضحياتها المقدّرة، لكن دعونا نسأل وبصدق ماذا قدّمت خلال هذا الشهر سوى المسيرات والخُطَب وبرامج الفضائيات؟ وهنا يبرز بعض المُتحذلقين من مثقفينا وسياسيينا القريبين من تلك الحركات، ليقول إن المطلوب الآن هو فقط تصعيد انتفاضة، وإبقاءها في دائرة (الغضب) و(الحراك الشعبي)، وألا تتحول إلى انتفاضة مسلحة، فلتكن – هكذا يقولون – مثل الانتفاضة الأولى (1988) وليس الثانية (2000) وهنا نردّ عليهم وببساطة، إن النضال الشعبي والقضايا العادلة لا يعرفان أداة واحدة، عبر تاريخ البشرية؛ بل كانا دائماً يزاوجان بين الفعل الشعبي (تظاهرات – رأي عام دولي – مقاطعة – لجان دعم ومساندة في الاقليم) والفعل المسلح، هكذا كانت تجربة فيتنام، وتجربة الجزائر، وغيرهما. بل إن الأصل، الذي يحرّر الأرض، ويُعيد الحقوق هو (المقاومة المسلّحة) يخدم عليها ويرفدها العمل السياسي والثقافي بغطاء وقوّة دفع معنوية، كل ذلك في إطار مُنظّم، وبقيادات وتنظيمات لا تتاجر أو ترتهن حركتها المسلحة بموقف أو محور هي مرتهنة لصالح شعبها وقضيتها، طبعاً هنا لن نتحدّث عن فريق أوسلو لأنه أصلاً يعمل ضد فلسطين منذ توقيع اتفاق أوسلو 1993 و إن عداءه للمقاومة تحصيل حاصل، ومن ثم لا جدوى من الحديث عنه !!
حتى الدعوة الصادقة إلى (بناء استراتيجية جهادية موحّدة) التي دعا إليها السيّد حسن نصر الله (أمين عام حزب الله) في خطابه التاريخي (11/12/2017) لم تجد ترجمة عملية وجادة، ولم تجد مُتلقّين صادقين لتنفيذها؛ لماذا لأن هذا القائد المُجاهد بات يغرّد لوحده، أما باقي السرب، خاصة أولئك المناطة بهم الشؤون العربية وحركات ولجان المقاومة، فإنهم باتوا منفصلين تماماً عنه، باتوا أقرب إلى الأداء الباهت والضعيف والمنعزل، وأحياناً المغرور .. انتهت دعوة (سماحة السيّد) للأسف إلى عدم وجود نتيجة على الأرض، وكأن الرجل يؤذّن في مالطة كما يقول المثل ولم يتم استثمارها بالقدر والقيمة الكافيين من الجميع !! .
رابعاً : إذا كان الجميع عربياً وإسلامياً (ولن نقول عالمياً لأن القضية بالأساس قضية العرب والمسلمين) قد تخلّى، وبدرجات متفاوتة عن إحداث التأثير المباشر على واشنطن، ومن ثم على تل أبيب، وباتت صرخة الفلسطيني هي (يا وحدنا) وأن واقع الشعب في الضفة وغزّة غير المندرج في تنظيمات أو جماعات لها حساباتها وعلاقاتها ومحاورها؛ والبعيد عن السلطة التي لاتزال تنسّق أمنياً مع العدو الصهيوني ولم تجرؤ على إعلان سقوط اتفاق أوسلو الذي من المفترض أن قرار ترامب قد قتله تماماً ولم يبق إلا دفنه !! كل ذلك يؤكّد، أنه – أي هذا الشعب الفلسطيني المُعلم - قد صار وحده، في هذه المعركة الطويلة لتحرير فلسطين (التي هي لدينا من البحر إلى النهر شاملة القدس الغربية والشرقية).. فإن الواجب الأخلاقي والديني يجبرنا على أن نقول له (ماحكّ جلدك مثل ظفرك) فرغم أن تحرير فلسطين، هو قضية الأمّة كلها، إلا أن تلك الأمّة نائمة، وإلى أن تستيقظ، فالمعركة بالأساس والآن، معركتك أنت .
وبالمقابل، دعونا نذكر، "القاعدون"، منا، وما أكثرهم – عربياً وإسلامياً - أن قرار ترامب، بنقل السفارة، وباعتبار القدس عاصمة لفلسطين، ليس سوى البداية في سلسلة طويلة من الإجراءات والخطط، لما أسماه هو بـ(صفقة القرن)، أي إنهاء القضية الفلسطينية من جهة، وإخضاع الإرادة العربية بالكامل لأميركا، واعتبار هؤلاء الحكّام ودولهم تماماً، مثل قضية الهنود الحمر، من جهة ثانية؛ دعونا نذكّر (القاعدون) إن الدائرة ستدور عليهم في الحلقات الأخرى، المرتبطة بذات القضية، سواء في ملفات الاقتصاد والإرهاب المُصنّع أميركياً، والتوسّع الصهيوني مباشرة أو عبر وكلاء.. والإخضاع الكامل للإرادات والقرارات والسياسات الأميركية؛ وإذا لم يًفق القاعدون، ويعيدون نقد الذات، وتوجيه الطاقات والإمكانات (خاصة الإمكانات التسليحية والاقتصادية) ناحية البوصلة الصحيحة؛ فلسطين... فإن الدور عليهم قريب جداً، وساعتها لن ينفع الندم ولن تجدي صرخة؛ "يا وحدنا !!" التي سيطلقونها هم أنفسهم هذه المرة؛ وبحرقة المُذلين المُهانين أميركياً !! . والله أعلم.