المسكوت عنه في التطبيع بين السعودية وإسرائيل!
قبل أيام نشر موقع (ويكيليكس) مراسلات للخارجية السعودية ممهورة بعبارة (سرّي للغاية) تؤكّد أن ثمة علاقات تاريخية مهمة بين الكيان الصهيوني والمملكة، وإنها تجاوزت السياسة إلى الاقتصاد ومنه إلى زيارات رجال المخابرات (أبرزهم اللواء السابق أنور عشقي في زيارته الأخيرة عام 2016 للكيان الصهيوني).
في البداية ماذا تقول بعض تلك الوثائق الجديدة، على موقع ويكيليكس لقد نشر مراسلات للخارجية السعودية ممهورة بعبارة "سرّي للغاية"، تكشف حقائق جديدة عن تطبيع المملكة العربية السعودية مع إسرائيل. تكشف الوثائق المُسرّبة مراحل التقارُب بين السعودية وإسرائيل، إذ بدأت بإلحاح سعودي على طرح مسألة التطبيع مع إسرائيل ومبادرة السلام السعودية عام 2002 التي تبنّتها جامعة الدول العربية في قمّة بيروت في العام نفسه. أكّدت وثائق ويكيليكس أن شخصيات سعودية نافذة بدأت عام 2006 بالحديث علانية بأن إسرائيل لم تعد ضمن قائمة أعداء العربية السعودية بل هي أقرب لحليف غير رسمي، ليتطوّر الأمر إلى مبادرات سعودية للتقارُب مع إسرائيل عام 2008، وفعاليات التقارُب مستمرة منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم 2017.
وتظهر إحدى البرقيات المؤرّخة بـ27 أبريل 2005، والمُرسَلة من وكيل وزارة الخارجية للشؤون الاقتصادية والثقافية، إلى وزير الخارجية السعودي، حجم التطبيع الذي وصلت إليه السعودية مع إسرائيل. وكانت البرقية المذكورة بشأن تلقّي وزارته برقية من رئيس ديوان مجلس الوزراء السعودي لاستبيان الموقف القانوني والدبلوماسي بشأن تعامل المملكة مع شركات أجنبية وثيقة الصلة بحكومة إسرائيل. وبحسب البرقية فإن وكيل وزارة الخارجية السعودية أشار إلى قرار مجلس الوزراء السعودي رقم (5) المؤرّخ بـ13 يونيو 1995 الخاص بوقف مقاطعة إسرائيل من الدرجتين الثانية والثالثة. وأشار موقع "ويكيليكس" إلى أن هذه البرقية كشفت أن السلطات السعودية قد سمحت، منذ منتصف التسعينات، للشركات التي لها علاقة بإسرائيل بالعمل داخل المملكة في مختلف المجالات، وأن المراجعة فقط تتم في حالات خاصة متعلّقة بأمن المعلومات، ثم أورد الموقع عشرات الوثائق المهمة يمكن لمَن يريد الاستزادة العودة إليها!!.
أما في مجال الرصد والتحليل الأكاديمي فإنه، وبعودة قليلاً إلى التاريخ وبعيداً عن وثائق ويكيليكس نجد إن حرب الخليج عام 1991 قد شكّلت منعطفاّ هاماً بالنسبة لصناعات إسرائيل العسكرية لأنها مكّنتها من بيع الأسلحة الإسرائيلية على نطاق واسع للولايات المتحدة وحلفائها العرب، فمثلا اشترت السعودية منها منصّات إطلاق صواريخ توماهوك، وقذائف مُضادّة للدروع، وطائرات استطلاع من دون طيّار، وأجهزة ملاحة، فضلاً عن 14 جسراً عسكرياً صنّعتها شركة تاس الإسرائيلية سعر الجسر الواحد مليون دولار، ويضيف الخبيران الأمنيّان (ميلمان، رافيف) "أن إسرائيل شحنت للسعودية مناظير للرؤية الليلية ومعدّات لزرع الألغام وقد أمر الجنرال شوارتز كوف قائد قوات التحالف الغربي ضدّ العراق وقتها، بإزالة جميع الكتابات العبرية المنقوشة على الأسلحة حتى لا يكتشف أحد منشأها" .
ثم يأتي الخبير العسكري (سليج هاريسون) ليبرز في كتابه (الحرب ذات الكثافة المحدودة) أبعاد عمليات التمويل وطرقها قائلا ( إن مصدراً رفيعاً في المخابرات الأميركية أبلغه على سبيل المثال أن المخابرات الأميركية دفعت 35 مليون دولار عام 1986 لإسرائيل من الأموال السعودية لشراء بعض الأسلحة التي غنِمتْها إسرائيل من الفلسطينيين أثناء غزوها لبنان عام 1982 ، ثم قامت بشحنها جواً إلى باكستان لتوزيعها على المجاهدين في أفغانستان )، مداولات مجلس الشيوخ الأميركي عام1987 ص203).
أما عن عمليات التبادل التجاري فحدِّث ولا حرج.. كتب ألكسندر بلاي في (جيروزاليم كوارتلي) يقول: " إن النفط يغادر الموانيء السعودية وما أن يصل إلى عرض البحر حتى يتم تغيير مسار القافلة وتفريغ حمولتها في عرض البحر، وتزييف أوراقها وتحويل الحمولة إلى الموانىء الإسرائيلية، يتم هذا منذ التسعينات ولايزال مستمراً وسرّياً حتى اليوم" .
وتتحدّث مجلة الإيكونوميست البريطانية: "إن إسرائيل تقوم بحماية النفط السعودي الذي يضخّ من (ميناء ينبع) على البحر الأحمر، وعملاً باتفاق سرّي إسرائيلي سعودي مصري فإن إسرائيل تقوم بموجبه بحماية القطاع الشمالي من البحر الأحمر بينما تقوم مصر بحماية القطاع الجنوبي والغربي مقابل حصولهم على مساعدات مالية سعودية"، وبعد تسليم الجزيرتين (تيران وصنافير) هذا العام 2017، سيصبح المسكوت عنه والسرّي علنياً شديد الوضوح !!.
ولا يقتصر الأمر على علاقات سرّية بهذا الاتّساع والعُمق في تجارة السلاح والنفط بل تجاوزها إلى مجالات أخرى متعدّدة وتعود إلى حقبة التسعينات من القرن الماضي، منها قيام الشركات والحكومة السعودية باستيراد أجهزة كمبيوتر إسرائيلية ماركة (ياردين) لريّ حدائق الأمراء والحدائق العامة (يديعوت أحرونوت 16/12/1993)، ومنها عقد اتفاقيات رسمية لتصدير الحمضيات الإسرائيلية (برتقال-ليمون) عبر الأردن (معاريف 4/1/1995)، بينما تذكر صحيفة معاريف في 29/10/1993 أن شركة سعودية اتصلت بمكتب المجلس المحلي لمستوطنة (كرنى شمرون) وأبدت استعدادها لشراء شقق سكنية في المستوطنة، ليس هذا فقط بل إن المفاوضات التي جرت مع دولة قطر لتزويد إسرائيل بالغاز الطبيعي قد خلقت تنافساً بين رجال الأعمال العرب بحيث أبدى رجال الأعمال السعوديين الذين يقومون باستمرار في زيارة لإسرائيل اهتماماً على ما يبدو ليس فقط بعقد صفقات نفط بل أيضاً ببيع الغاز الطبيعي (دافار 1/2/94).
وتتعدّد المعلومات وتتوالى ، عن تاريخ وأسرار العلاقات السرّية الإسرائيلية السعودية، فتذكر مجلة الفجر التي كانت تصدر في القدس في 14/5/1992 أن رئيس بلدية القدس (تيدي كوليك) قد اجتمع مع الشيخ إسحق إدريس مستشار الرابطة الإسلامية العليا في الرياض الذي وصل على طائرة شركة العال الإسرائيلية قادماً من القاهرة وهي أول زيارة تقوم بها شخصية دينية إسلامية على هذا المستوى، وقد سلّم كوليك للشيخ إدريس تمثالاً من النحاس لقبّة الصخرة وعبّر له الشيخ إدريس عن رغبته في الحصول على صورة تشتمل أيضاً على ما أسماه هو بـ "حائط المبكي" !.
لكن الدهشة من كل ما سبق تتراجع إزاء ما ذكره (مليمان، رافيف) في كتاب لهما بعنوان (كل جاسوس أمير) يقولان فيه: إن جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) قد فوجئ بتحرّكات مستقلّة للثلاثى(خاشوقجي، نيمرودي، آل شويمر) مع العديد من المسؤولين الإسرائيليين.. وكانت تلك التحرّكات عن طريق شارون الذي صار وزيراً للدفاع وعَلا نجمُه ، وأعلن في خطاب في ديسمبر 1981 عن امتداد مصالح إسرائيل الأمنية والإستراتيجية من أواسط إفريقيا وشمالها.. وحتى باكستان، وقد حصل الثلاثي على وثيقة سرّية كتبها وليّ عهد السعودية آنذاك الأمير فهد إسمها (خطة فهد للسلام) لتسليمها للسلطات الإسرائيلية ، وهي بالطبع كانت مقدمة لما سُمّي بمبادرة الأمير عبد الله الأخيرة (الملك لاحقاً) عرضها في بيروت عام2002، وتكشف حجم التطبيع والاستسلام باسم التسوية والسلام مع إسرائيل !
هذا وقد اعترف خاشوقجي في عيد ميلاده الـ55 والذي احتفل به في مدينة السينما "كان" لمراسلة صحيفة يديعوت أحرونوت في القاهرة (سامدار بيري) أن (عملية موسى) لتهجير يهود الفلاشا الأثيوبيين إلى إسرائيل والتي نفّذتها الولايات المتحدة وإسرائيل والسودان عبر الأراضي السودانية قد تمت في منزله (وبموافقة من الملك السعودي) خلال اجتماع سرّي عُقد في مزرعته الخاصة في كينيا عام 1982 وحضره كل من جعفر النميري وشارون وزوجته و نيمرودي وزوجته وآل شويمر، ورئيس المخابرات الإسرائيلية ناحوم إمدوني) (مجلة الدستور20/8/1990) وتواصل سامدار بيري حديثها عن التعاون الأمني بين خاشوقجي والإسرائيليين قائلة " إن خاشوقجي نصح الإسرائيليين بقوله: أَقْترِح أن تُسلّموا السلطة إلى صديقي إريك (يقصد أرئيل شارون) وعندئذ سيكون كل شيء على مايرام".
وهكذا بعد 27 عاماً من هذا الحوار ينشر موقع "ويكيليكس" مراسلات الخارجية السعودية سالفة الذكر، وينشط الأمير الطموح محمّد بن سلمان ليتولّى حُكم بلاده على أرضية القبول بالتطبيع عبر البوابة الأميركية وعبر اتفاقية تيران وصنافير المصريتين ليصبح طرفاً ثالثاً مع (مصر وإسرائيل) في حفظ أمن إسرائيل وضمان الملاحة في البحر الأحمر. إنها دراما التطبيع السعودي/الإسرائيلي، وعاره في نفس الوقت، فالدولة التي تدّعي حماية الحرمين الشريفين ومُقدّسات المسلمين، تتعاون وتُطبّع مع مَن يُدنّس تلك المُقدّسات في فلسطين ويغتصب حقوق شعبها ويذبحه منذ 1948 وحتى اليوم؛ وهو عار نظنه سيستمر طويلاً إذا لم يجد مَن يردعه من أهل الجزيرة العربية التي سُمّيت ذات يوم في ثلاثينات القرن الماضي على سبيل الخطأ التاريخي؛ بـ(السعودية). والله أعلم.