كيف تنظر تركيا وجبهة النصرة إلى "خفْض التوتّر" في إدلب؟

من غير الواضح كيف أمكن التوصّل إلى إجماع حول صيرورة إدلب فضاء جهادياً جاذباً للمُسلّحين من كل أنحاء سوريا: المنهزمون في المعارك، الوافدون إليها بمقتضى مُصالحات وتسويات، الطامحون للوصول إليها ومنها إلى خارج سوريا. وإدلب مدينة أو محافظة اتّسمت تاريخياً بنزوع إسلاموي وتعصّبي ثقيلٍ مُعنِّد؛ وقد انطلقت منها أولى الدعوات لـ "الناتو" من أجل ضرب سوريا، وكانت "قاعدة" مُبكرة لتجمّع الجهاديين القادمين من أربع جهات الأرض للقتال في سوريا، ليتم توزيعهم على مختلف الجبهات.

جبهة النصرة استجابت لمعظم "النصائح" التركية ما عدا "حل" هيئة تحرير الشام،
تمثّل سيطرة جبهة النصرة على إدلب "حقيقة قاتِمة فاضِحة"، بتعبير جيل دولوز، فهي "قاتِمة" بمعنى أن التكوينات الجهادية هي الثابت الرئيس والوحيد تقريباً في المشهد المعارض، وأن إيديولوجيا القاعدة قَوّامة على كل أنماط التنظيمات الأخرى، وأن الحديث عن قوى مُعتدلة ما هو إلا "حديث خُرافة" وتضليل، وأن الانتقال من "أحرار الشام" و"الجيش الحر" وغيرهما إلى "جبهة النصرة" وأشباهها، والعكس، هو من أيسر الأمور وأهونها، وكذلك هي الحال مع إقامة التحالفات ونقضها، كما أن تغيّر عنوان السيطرة من هذه المجموعة المسلّحة إلى تلك، هو تغيّرٌ في الشكل والتسمية وليس تغيّراً في الموقف والارتباط والاتّجاه.
 

وتمثّل سيطرة جبهة النصرة على إدلب "حقيقة فاضِحة" بمعنى أن ما حدث مثّل فرصة لتركيا أكثر منه تهديداً، وقد واصلت جهودها ومساوماتها لإدراج "الإمارة" في اتفاقات "خفّض التصعيد"، كما أن ما حدث لم يخلق ردّة فعل جديّة من قِبَل التنظيمات المسلّحة وغير المسلّحة الموالية لتركيا في إدلب، وهذا يدلّ على تواطؤ تركي عميق، ذلك أن الكثير من تحوّلات المشهد هناك ليست بعيدة عن معرفة أو تدبير أو ضبْط من قِبَل الاستخبارات التركية. وقد سبق لـ بريت ماكغورك الموفد الأميركي لدى التحالف الدولي أن اتّهم تركيا بأنها سمحت لتنظيم القاعدة بـ "السيطرة على محافظة إدلب". (تصريحات، 1 آب/أغسطس الجاري).

تكتيكات تركية

الهجوم العسكري على "جبهة النصرة" في إدلب ليس هدفاً نهائياً للذين يهدّدون به، وخاصة روسيا والولايات المتحدة وإيران، وسوريا بطبيعة الحال، ويمكن العدول عنه في حال تم "تفكيك إمارة القاعدة" هناك، وخلْق أوضاع تستجيب بكيفية ما لاشتراطات "وقْف إطلاق النار" على غِرار ما حدث في مناطق "خفّض التوتّر" الثلاث (درعا، والغوطة، والرستن). وأما تركيا فتقرأ الموضوع بكيفية مختلفة، إذ ليس هدفها هو "التفكيك" التام للإمارة وإنما "احتواء" أيّ عمل عسكري مُشترك ضدّها، من خلال العمل على تكتيكات وإجراءات مُتداخِلة إلى حدٍ كبير:

 

- العمل مع "جبهة النصرة" والجماعات والتنظيمات الأخرى المسلّحة وغير المسلّحة على إقامة "إدارة مدنية" مشتركة في إدلب المدينة، تُراعي مصالح مختلف الأطراف، وتُجَنِّب المدينةَ (والجبهة) مصيراً مُشابهاً للموصل والرقّة.

-  إقناع "جبهة النصرة" بحل أو إعادة تشكيل "هيئة تحرير الشام" بحيث تتمكّن التنظيمات المتحالِفة مع "جبهة النصرة"، من إعلان مواقف مختلفة عن مواقف الجبهة، تقبل بموجبها بمتطلّبات "خفْض التوتّر"، تحت أعين النصرة، وبضبط منها وبما يُراعي مصالحها.

- إعادة تنظيم الجماعات المسلّحة الموالية لتركيا، ومن بينها "حركة أحرار الشام"، بتوافق ودعم إقليمي ودولي، وتمكينها من "إزاحة" جبهة النصرة أو هيئة تحرير  الشام عن واجهة المشهد، ربما إبعادها إلى ريف المدينة.

- الضغط من أجل تشكيل قوات شرطة في المدينة، على غرار ما حدث في مدينتي الباب وجرابلس، فيما تنسحب التنظيمات المسلّحة إلى أطراف المدينة وريفها، مع تمكين "جبهة النصرة" من تشكيل واجهات مدنية وأمنية وشبه عسكرية.

- الربْط بين "الإدارة المدنية" وبين "الحكومة المؤقتة"، ما يحقّق أحد أهم أهداف تركيا، وهو خلْق موطئ قدم لحكومة الائتلاف، وإقامة بُنى "سلطة بديلة" عن دمشق، يمكن أن تنال اعترافاً دولياً تدريجياً، في إطار تسويات مُعقدّة في المشهد السوري.

من الواضح أن استهداف "جبهة النصرة" ليس أولوية لدى أنقرة، صحيح أنها أدرجتها في قائمة الإرهاب، إلا أنها تمثّل -في الوقت نفسه- أحد أهم مصادر دعمها وإمدادها. وبالنسبة لدمشق وحلفائها، فإن الهدف ليس مُهاجمة إدلب، وإنما ضرب الجماعات المسلّحة بأقل قدْرٍ ممكن من المخاطر  على المدنيين، ولذا يتم التركيز على التسويات والمصالحات وإقامة مناطق "خفّض التوتّر".

تكتيكات "الإمارة"

صحيح أن سيطرة جبهة النصرة على إدلب كانت سهلة، إلا أن العملية وضعت الجبهة في موقف مُعقَّد، ولذا فقد سارعت لاتّخاذ خطوات استدراكية، من خلال:

- الإعلان عن إقامة "إدارة مدنية" في إدلب، والاستعداد لإشراك التنظيمات الأخرى، ومنها حركة أحرار الشام، في إدارة المدينة.

-  إجراء مداولات مع حكومة الائتلاف، ورفْع علم الائتلاف على المعابر الحدودية مع لواء إسكندرون.

- قرار تخفيف السلاح الثقيل في المدينة بسحبه إلى الأطراف.

-  تخفيف التوتّر والعدائيّة مع خصومها وشركائها السابقين من الجماعات المسلّحة في المدينة وريفها.

- إبداء الاستعداد لاتّخاذ قرارات براغماتية في ضوء الظروف القائمة والتهديدات الوشيكة، وقد أعلن أحد مصادر جبهة النصرة أنها "ستتّخذ القرار المناسب، من دون أن تفرّط في راية الجهاد ومقاصده".

هذا يعني أن جبهة النصرة استجابت لمعظم "النصائح" التركية، ما عدا "حل" هيئة تحرير الشام، ولو أن ذلك ليس من الأمور المستحيلة، إذ أن تشكيل الهيئة المذكورة، كان استجابة لنصائح تركية وأميركية، وخاصة أن مطلب حلّ الهيئة ترافق بضمانات تركية بعدم المسّ بجبهة النصرة.

تُدرك جبهة النصرة أن تركيا تعوّل عليها كثيراً، وليس من السهل أن تتخلّى عنها، إلا أنها مع ذلك يمكن أن تساوِم على إدلب، كما فعلت في حلب، وأنها إذ تحاول تجاوز "عتبة عفرين" والمخاوف من أن تدفع واشنطن بالقوات الكردية للقتال في إدلب، فقد تتّجه لتوافقات مع روسيا وإيران تكون على حساب "الإمارة" في إدلب. وهذا ما تتحسّب له جبهة النصرة من خلال سيناريوهات بدلية، أقربها هو التعاون مع تركيا، والتكيّف مع متطلّبات منطقة "خفْض التوتّر" بشكل مباشر أو غير مباشر، والحصول على "ضمانات مُعطِّلَة" في الإدارة المدنية وترتيبات الوضع في  إدلب عموماً، واستمرار تدفّق الإمدادات والموارد عبر المعابر، وأبعدها هو الاستعداد لمواجهة مُحتمَلة معها ومع أطراف أخرى.


وهكذا تتقاطع رؤية تركيا و"جبهة النصرة" لمتطلّبات إقامة منطقة "خفْض التوتّر" في إدلب، وهدفهما الرئيس هو احتواء عمل عسكري كبير ضدّ "الإمارة" هناك، من خلال الاستجابة العلنية لعددٍ من مُتطلّبات "خفْض التوتّر"، والعمل –في الوقت نفسه- على "تكييف" و"تمويه" السيطرة بما يُمكِّنُ تركيا من اتّخاذ المبادرة عندما يكون ذلك مُناسباً، سواء أكان ذلك بالتوافق مع "الجبهة" أو في مواجهتها؛ ومثل ذلك بالنسبة لـ "جبهة النصرة"، سواء أكان ذلك بالتوافق مع تركيا أو في مواجهتها.