بين حلب وستالينغراد

هي معركة بعيدة المدى من حيث النتائج، وتشبه معركة ستالينغراد، فهي ستترك تداعياتها الكبيرة على المشروع التركي بكامله، وخصوصاً أنّ حلب تشكّل درّة تاج حُلم العثمانية الجديدة.

  • بين حلب وستالينغراد
    تحوَّلت معركة حلب إلى بوابة لكلِّ المشاريع المُتناقِضة

تتمتّع مدينة حلب بأهميّة استراتيجيّة لا مثيل لها، فهي أقدم مدينة مأهولة في التاريخ، ويتجاوز عُمرها 12 ألف عامٍ، كما أن موقعها الجيوسياسي يُعتَبر الأكثر أهميّةً في العالم، ولا توازيها سوى مدينة إسطنبول، وهي نقطة تقاطُع أساسية لحضارات العالم القديم وطُرُق التبادُل التجاري.

وقد جرى تحجيم دورها بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح في العام 1488، وافتتاح قناة السويس في العام 1859، بعد هيمنة القوى البحرية على مسارات السياسة العالمية والقوى البرية في قلب العالم القديم، والتي سيطرت على المسارات التاريخية لحركة الحضارات والدول لأكثر من 5 آلاف عام، إضافةً إلى تفتيت المنطقة ككلّ بفعل السياسات الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، وخصوصاً بريطانيا.

وعلى الرغم من كلِّ ذلك، حافظت حلب على أهميّتها الاستراتيجية الكامِنة، وأخذت تستعيد دورها بعد أن بدأت التحوّلات الدولية الكُبرى، وعادت القوى البرية إلى المسرح الدولي في قارّة آسيا، وخصوصاً روسيا والصين وإيران، وما رافق ذلك من إعادة الدور إلى طُرُق النقل البري الأسرع والأقلّ كلفةً باستخدام السكك الحديدية، ما أعادها إلى واجهة الأحداث، باعتبارها نقطة استراتيجية أساسية بين قارات آسيا وأوروبا وإفريقيا.

أدركت الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل" وتركيا الأمر، واعتبرتها مفتاح إسقاط دمشق، إذا ما استطاعت احتلالها وضمّها إلى تركيا، وهي بذلك تكون قد فتحت كلّ الأبواب المؤدّية إلى السيطرة، ليس على سوريا فحسب، بل على كامل المنطقة العربية أيضاً، بما في ذلك شمال إفريقيا، وإطباق الحصار على إيران، ودفعها نحو الانهيار الداخلي، ومن ثم إسقاط المشروع الصيني الذي يتمدَّد بصيغة تعاونية باتجاه أوروبا عبر إيران والعراق وسوريا، إضافةً إلى إسقاط المشروع الأوراسي الذي تقوده روسيا.

كلّ ذلك يمنح الولايات المتحدة المزيد من الوقت للاستفراد بالهيمنة العالمية، وبقائها قُطباً أوحد بلا مُنافِس مُهدِّد لها.

من هنا تأتي أهميّة معركة حلب التي تحوَّلت إلى بوابة لكلِّ المشاريع المُتناقِضة، وأظهرت حدّة الصراعات ذات الطابع الوجودي لمحورين أساسيين، اختارت خلالها دمشق الدفاع عن وجودها كدولة، بالتحالف مع إيران وروسيا عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، إضافة إلى الصين سياسياً، في مواجهة المحور الأميركي وامتداداته التركية الإسرائيلية القَطَرية السعودية.

هذه المعركة بعيدة المدى من حيث النتائج، وتشبه معركة ستالينغراد، فهي ستترك تداعياتها الكبيرة على المشروع التركي بكامله، وخصوصاً أنّ حلب تشكّل درّة تاج حُلم العثمانية الجديدة، ما سيترك آثاراً بالغة في الوجود التركي في إدلب، ويؤدّي إلى انهيار معنوياته وطموحاته، ويسهّل عمليات الجيش السوري وحلفائه في ملاحقة المجموعات الإرهابية المُسلّحة، ويدفعها نحو الحدود التركية، ما سيُشكّل ضغطاً كبيراً على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وإدارته السياسية، ويدفعه إلى البحث عن إيجاد مخرج لمأزقه بعد عجز الأميركيين عن نجدته وتركه لمصيره في مواجهة الحلف السوري الروسي الإيراني.

وهو ما سيدفعه أكثر إلى النزول عن الشجرة السورية من خلال توجّهه مجدداً نحو موسكو وطهران لمساعدته على النزول، وهذا لن يكون إلا بثمنٍ باهظٍ عليه، وهو تسليم بالأمر الواقع، وتسهيل عودة كلّ الأراضي التي احتلّها، والتخلّص من المجموعات الإرهابية، والعودة إلى التفاهُم مع دمشق من موقع الإقرار بشرعيّتها.

وفي الوقت نفسه، إنَّ لهذه المعركة آثاراً في العلاقات الأميركية- الروسية، والإيرانية- الأميركية، سنلاحظها خلال سنوات، إذ سيتسارع الانكفاء الأميركي عن المنطقة بعد خسارته أهم معركة استراتيجية.

وسيظهر ذلك في المرحلة الأولى في الشمال السوري، ولن يجد له مخرجاً إلا بالانسحاب مما تبقى من الأراضي التي يحتلّها، ما سيترك آثاراً في العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا، بالمزيد من التوتّرات والاحتكاكات والتهديدات، وسيؤدّي إلى توسيع الشروخ بينهما، بفعل تناقُض الرؤى والمصالح بين الطرفين، إضافةً إلى التأثير المباشر في وضعيّة الكيان الصهيوني، الذي كان يُراهِن في كل المراحل الماضية على إمكانية حدوث حرب محدودة في سوريا، تُتيح له تقديم الدعم الجوي للمجموعات المُسلّحة، وتأمين ممرّ آمِن للسيطرة على المنطقة الوسطى، وإعادة خلط الأوراق لإسقاط دمشق.

واليوم، يزداد الإسرائيليون قلقاً، فهم يدركون أنَّ محور المقاومة استكمل استعداداته العسكرية لمواجهتهم، وأن ما يمنع المواجهة بدأ بالتلاشي، ويمكن اختصاره بأمرين، الأول عدم توافر البيئة الاستراتيجية للحرب، والآخر وجود المجموعات الإرهابية في إدلب، التي تجعل ظهر المواجهة مع الجيش السوري وحلفائه مكشوفاً، إذ سيتدخّل الطيران الإسرائيلي لتأمين ممرّات لدخول هذه المجموعات إلى المنطقة الوسطى والوصول إلى دمشق.

أما الآن، فإنَّ هذين الأمرين المعوِّقين قد تغيَّر وضعهما، فالبيئة الاستراتيجَّية للحرب أصبحت متوافرة بعد اغتيال الولايات المتحدة الأميركية أهم شخصيتين إيرانية وعراقية، وهما قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، أسوةً بعملية أَسْر الجنديين الإسرائيليين في جنوب لبنان، واندلاع حرب تموز 2006 على أثرها، إضافةً إلى قرب تحرير إدلب وتأمين ظهر أيّ هجوم، بفعل التخلّص من المجموعات الإرهابية، وإخراج تركيا والناتو من المُعادلة العسكرية، والانكفاء الأميركي المُتسارِع بعد قصف قاعدتيه العسكريتين في الأنبار وأربيل، وبدء تحرّك المقاومة العراقية لإخراجه من العراق.

ما بعد تحرير حلب بالكامل ليس كما قبله، فقد حسمت المعركة مسارات القوى الآسيويَّة الصّاعِدة باتجاه تعزيز المزيد من المكاسب، ومستقبل الدولة السوريّة بقُرب استعادة سيادتها على كامل الأراضي المُحتلّة، والدّفع باتجاه إعادة بناء رؤية جديدة مُلزِمة للتموضع في نظامٍ إقليمي ودولي جديد عِماده العالم القديم.