هل تخرج القوات الأميركيَّة من العراق؟
في حال تبنَّت الاحتجاجات العراقية هدفاً جامعاً يمثل الخطوة الأولى من الحلّ، وهو خروج القوات الأميركية، فنحن أمام محطة عراقية جديدة لن تتوقَّف عند حدود السياسة، وإنما ستعيد هيكلة الاقتصاد العراقي من الداخل، لجهة تقليص دور الشركات الأميركية فيه.
انطلقت التظاهرات الحاشدة في العراق رافعةً هذه المرة شعاراً منفرداً موحداً، وهو خروج القوات الأجنبية من البلاد. المقصود الأول في هذه الحالة هو القوات العسكرية الأميركية، ذلك أنَّها تشكّل التواجد العسكري الأجنبي الأساس في العراق من جهة، وتمثل قيادتها مركز القرار الرئيس لباقي القوات الأجنبية من جهة أخرى.
من الملاحظ أنَّ التصريحات الرسمية الأميركية إبان تنفيذ عملية اغتيال القائدين سليماني والمهندس والردّ الإيراني، وقرار البرلمان العراقي القاضي بخروج القوات العسكرية الأميركية، تعبِّر عن حالة من التخبط داخل الإدارة الأميركية نفسها، فتارةً تعتبر الرسالة الصادرة عن إدارتها العسكرية في العراق مجرد نسخة أولية (draft) وصلت إلى مصادر الإعلام عن طريق الخطأ، على الرغم من إرسالها مرتين إلى الإدارة العراقية، وتارة أخرى تصرّح أن القوات الأميركية سوف تخرج، ولكن ليس الآن، باعتبار أنّ الخروج سيترك فراغاً كبيراً وينذر بعودة تهديدات الحرب مع الإرهاب مجدداً، وتارة تطلق تصريحات متشدّدة تتوعّد بفرض عقوبات اقتصادية على العراق في حال الإصرار على خروج القوات العسكرية.
يمكن استشراف هذا القرار (المغادرة من عدمها) أو استقراؤه عبر العناصر الأساسيّة التالية:
أولاً: مدى تحقّق الأهداف الاستراتيجية الأميركية التي شكّلت الدافع الرئيس للاحتلال.
ثانياً: آفاق تحقيق الأهداف الجديدة ضمن المتغيّرات السياسية بعد انسحاب القوات الأميركية في عهد باراك أوباما، وعودتها لاحقاً تحت غطاء التحالف الدولي ومكافحة الإرهاب، إبان سيطرة تنظيم داعش على مساحات واسعة من الدولة العراقية.
ثالثاً: فعالية المبررات السياسية التي تقدّمها الولايات المتحدة للبقاء وعدم المغادرة.
رابعاً: الروافع العراقية الداخلية لفرض الانسحاب الأميركي.
عن الأهداف الاستراتيجيَّة للاحتلال:
يعتبر اليمين المتشدّد في أميركا أنّ الحرب على العراق أضافت تريليون دولار على مديونية الولايات المتحدة منذ العام 2003، ويعتبر أنّ العائد على استثمار الحرب لم يكن مجدياً بما يكفي. ولكن في حقيقة الأمر، إنَّ الخزينة الأميركية ربحت الكثير من استثمار الحرب، ونفَّذت بدقة نظرية اقتصاد الكوارث، حيث إنها، علاوةً على السيطرة الكاملة، والسرقة المنظّمة للنفط العراقي (تحديداً بين الأعوام 2003 و2010)، منحت شركاتها عقوداً ضخمة تحت بنود إعادة الإعمار وبناء "العراق الجديد"، وشمل ذلك شركات من مثل "بيكتل"، و"هاليبارتون"، و"SkyLinkUSA"، و"Loral satellite"، و"إكسون موبيل" وغيرها.
استفاد الاقتصاد الأميركيّ، عبر صدمة الحرب التي نفَّذتها الإدارة الأميركية، من عقودٍ بمليارات الدولارات، وصلت بعد إسقاط النظام بأيام إلى 50 مليار دولار، وقامت الولايات المتّحدة بعملية خصخصة كاملة للمؤسَّسات العراقية (أكثر من 200 مؤسّسة)، وخفضت الضرائب على الشركات لصالح وكلائها من 45% إلى 15%، وأعادت هيكلة النظام المصرفي لصالح بنوكها الخاصة، ومنحت 2% فقط من مجمل العقود كاملة لصالح مؤسَّسات عراقية. كانت تلك سياسة اقتصادية أميركية تركت وراءها - على مدار عقود - نسبة بطالة وصلت إلى 40%، بحسب إحصائيات صندوق النقد الدولي في العام 2018.
يمكن القول إنّ الهدف الاستراتيجي المالي للحرب على العراق قد تحقّق، فكلفة تريليون دولار (لو صدّقنا رواية اليمين المتشدد في أميركا) عادت أضعافاً على الاقتصاد الأميركي، وخرجت أميركا من الحرب مصدِّرةً للنفط، وليست مستوردة له.
كان هذا بفضل احتلال العراق جنباً إلى جنب مع ابتزاز السعودية. ويشكّل ذلك عائدَ استثمار عالياً على الحرب، كما يحبّ رجال الأعمال الأميركيون تسميته. من هنا، يمكن القول إنَّ الحديث عن تكاليف بناء قواعد عسكرية أميركية وطلب استردادها – كما صرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب – مسألة لا معنى لها.
آفاق تحقيق الأهداف الجديدة:
بين الأعوام 2003 و2009، تراوحت أعداد عناصر القوات الأميركية في العراق بين 123 ألف عنصر و162 ألف عنصر، وكان الانسحاب الذي نفَّذته إدارة أوباما، وانخفاض عدد العناصر إلى 5000 اليوم، نتيجةً للمقاومة العسكرية والسياسية العراقية التي دعمتها إيران.
رغم ذلك، فقد تصدَّر هدفان أولويات الإدارة الأميركية في المرحلة اللاحقة؛ الأول هو استمرار العمليات التشغيلية للشركات الكبرى في العراق، وتحديداً "إكسون موبيل" و"هاليبارتون" و"شيفرون" والشركات الأمنية والعسكرية الخاصة.
والآخر صعد مع موجة الأزمة السورية والحرب الكونية عليها، وهو منع الاتصال الجيوسياسي الممتدّ من إيران إلى العراق ثم سوريا ولبنان، الأمر الذي دفع الإدارة الأميركية إلى إعادة إرسال عناصر جديدة إلى العراق تحت غطاء التحالف والدولي ومحاربة الإرهاب.
بعد عملية اغتيال القائد قاسم سليماني والردّ الإيراني، أعلنت شركتا "إكسون موبيل" و"شيفرون" عن نقل العاملين الأميركيين فيها إلى خارج العراق، باعتبار أنَّ سلامة موظّفيها الأولوية الأولى لديها، الأمر الَّذي يعني أنَّ احتدام الصراع بين إيران والولايات المتحدة سيشكل عائقاً أمام سلاسة أعمال الشركات الأميركية في العراق.
إضافةً إلى ذلك، فإنَّ احتكار الشركات الأميركية للسوق العراقي وقطاع الطاقة تراجع في الجولة الثانية (2010-2020)، ففي قطاع الطاقة العراقيّ تعمل شركات أخرى، مثل "غاز بروم" الروسيَّة، وشركة النفط الوطنية الصينية، و"بريتيش بتروليوم"، وشركات يابانية وكورية أخرى.
وقد رفض العراق في العام 2019 توقيع الاتفاقية مع "إكسون موبيل" ضمن الشروط التي تضعها الشركة اعتيادياً، وبلغت قيمة الاتفاقية آنذاك 53 مليار دولار.
أما بالنسبة إلى الهدف الثاني، فقد حاولت الولايات المتحدة على امتداد الأزمة السورية خلق منطقة عازلة (بالمعنى الجغرافي)، تمنع الاتصال المذكور للمحور، وكانت داعش أو الأكراد الأدوات التي وظَّفتها الولايات المتحدة لتنفيذ هذا القطع، ولكن فشلت المحاولتان معاً.
فعالية المبررات السياسية للبقاء:
رصدت الولايات المتحدة الأميركية بدقة مزاج الشارع العراقي إبان عملية الاغتيال التي نفّذتها بحّق الشهيد قاسم سليماني. كانت العملية تهدف على المستوى السياسي الاجتماعي إلى تأليب الشارع العراقيّ ضد إيران، واعتبار أميركا الطرف الحامي للعراق ضد الجار التاريخي، إلا أنَّ ردود الفعل جاءت معاكسة تماماً، وتمثلت في حشود غفيرة تطالب بخروج القوات الأميركية التي خرقت كلّ أشكال السيادة العراقية على أراضيها، واغتالت القائد الذي خاض المعركة الحقيقية في طرد الإرهاب من العراق، الأمر الذي يعبّر عن هشاشة المبرر الثاني (الخوف من عودة الإرهاب).
تحاول الولايات المتحدة تقديم مبرر آخر للبقاء، وهو الخوف من عودة الإرهاب إلى العراق مجدداً. يدرك العراقيون أنَّ سنواتٍ من عمل التحالف الدولي لم تعطِ النتائج التي وصلت إليها القوى الداخلية العراقية (الحشد الشعبي والتنظيمات العسكرية المحلية والجيش)، الأمر الذي يقلق العراق نفسه من إبرام اتفاقيات جديدة مع التحالف الدولي أو الشركات الأمنية الخاصة الأميركية (ومنها تلك العاملة في قطاعات التتبّع).
بعد التخلّي الأميركي عن أكراد سوريا، ويقين أكراد العراق أن لا مناص من التفاهم مع الدولة المركزية والعمل كمكوّن رئيس فيها، وتلاشي أوهام الانفصال، لم يعد استخدام الورقة الكردية فعالاً كمبرر لبقاء القوات الأميركية، وباتت المبررات التي يمكن للإدارة الأميركية تقديمها للرأي العالمي كي تبقى قواتها العسكرية، أكثر هشاشةً من أيّ وقت مضى.
هل تغادر القوات الأميركية؟
في حال تبنَّت الاحتجاجات العراقية - بأغلبية أطيافها - هدفاً جامعاً يمثل الخطوة الأولى من الحلّ، وهو خروج القوات الأميركية، فنحن أمام محطة عراقية جديدة لن تتوقَّف عند حدود السياسة، وإنما ستعيد هيكلة الاقتصاد العراقي من الداخل، لجهة تقليص دور الشركات الأميركية فيه.
الأزمة التي تواجهها الولايات المتحدة الأميركية تتلخص في أنها أمام حالة رسمية (رئاسية وبرلمانية) متفقة داخلياً على قرار الانسحاب، وأمام تحرك شعبي متّفق على هذا البند.
إنّ قرار المغادرة مرتبط بتفاعل العناصر الأربعة مجتمعة: أميركا لم تخسر في "استثمارها" في الحرب على العراق وحقَّقت العائد على الأرباح منذ السنوات الأولى من الحرب (1)، ولكنها تدرك أنَّ استمرار الحفاظ على العمليات التشغيلية لشركاتها، وقطع الاتصال الجغرافي للمحور الجديد أمر مكلف للغاية، وربما غير ممكن اليوم (2). وباتت المبررات الأميركية للبقاء شحيحة وغير مقنعة دولياً وشعبياً (3)، ولا سيّما في ظل نمو الروافع الداخلية في العراق وإجماعها على قرار الانسحاب (4).
يبدو أنّ مغادرة القوات الأميركية للعراق باتت أمراً متحقّقاً، يقرّر توقيته مستوى الضغط العراقي والإيراني ومشهد يحفظ ماء وجه الإدارة الأميركية.