هيمنة أميركا عبر أدواتها المالية.. هل يمكن تعطيلها؟
في خضم كل ما يجري، وبعيداً عن التفاؤل المُفرط، يبدو أن الخيمة الأخيرة للهيمنة الأميركية المُطلقة (النظام المالي) بدأت حقيقة تهتزّ.
هدَّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب العراق مؤخّراً في فرض عقوبات اقتصادية عليها، في حال إصراره على المُطالبة بسحب القوات الأميركية من البلاد.
عندما تتَّخذ أية دولة في العالم قراراً سيادياً ضد مصالح الولايات المتحدة الأميركية، تلوِّح الأخيرة بتهديدات فرض العقوبات، فما هي عناصر القوَّة في التهديدات الأميركية؟ وهل حقاً ما زالت فعَّالة كالسابق خلال حقبة هيمنة القطب الواحد في التسعينات؟ وهل ثمة خطوات لنزع الأدوات الأميركية في فرض العقوبات اليوم؟
لم يتردَّد مطبخ القرار في الولايات المتحدة، خلال حقبة القطب الواحد، في فرض خيار الحرب والاحتلال المباشر، كخيارٍ مُجدٍ لتحقيق الأهداف السياسية والاقتصادية الأميركية، فلذلك شهدنا احتلال العراق وأفغانستان في بدايات الألفية الجديدة، ولم تكن حينها توازنات القوى الدولية تسمح بما يكفي لوقف هذه الحروب، ولَجْم الولايات المتحدة الأميركية عنها.
ولكن مع نموّ قوى الردع العسكرية، إيران وروسيا والصين شرقاً، باتت خيارات المعسكر الأميركي تميل أكثر إلى خانة الاقتصاد، والاعتماد أكثر على الحروب الاقتصادية، واختصار معنى العقوبة بالشكل الاقتصادي أكثر من الجانب العسكري. ولكن، ما هي هذه الأدوات الاقتصادية التي تسمح بكل ذلك؟
يختصر الكاتِب علي القادري هذه الأدوات بعنوانٍ مُكثَّف؛ "إن ثراء العالم محفوظ بالدولار"، ويختلف الأمر هنا عن حكايات فكّ ارتباطه بالذهب و"بريتون وودز". إن الهيمنة المالية الأميركية تقوم على عنصر حفظ الثراء هذا؛ الأمر الذي فرض بعد الحرب العالمية الثانية التبادُل التجاري (الإستيراد والتصدير) بالدولار كعملةٍ مرجعية، أي أن الدولة بحاجةٍ إلى رصيدٍ من الدولار كي تتمكَّن من شراء احتياجاتها التي لا تنتجها، وإن كانت الدولة شحيحة الإنتاج، كحال الكثير من الدول التابعة أو المحتلة، فهي مضطرة للاستدانة والاعتماد على المساعدات الأميركية والمزيد من القروض.
تمتلك الولايات المتحدة أكبر الشركات العالمية في التأمين، كما أنها تسيطر على نظام الحوالات المالية، الأمر الذي يعني أن الدول القادِرة على الإنتاج تواجه إشكاليات في تصدير مُنتجاتها، لاصطدامها في عوائق الحوالات المالية.
استندت سلسلة العقوبات الأميركية تجاه الدول المستقلة إلى هذه العناصر من التحكّم في الاقتصاد العالمي، فبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران جمّدت واشنطن الكثير من الأرصدة المالية الإيرانية، ومن ذلك 2.1 مليار دولار في "سيتي بنك" منذ عام 2008م، وكذلك 1.6 مليار تم تجميدها في لوكسمبرغ أثناء عمليات التحويلات المالية المُرتبطة بالبنوك الأميركية. هذا علاوة على ما سُرِق من أصولٍ إيرانيةٍ بعد الثورة مباشرة، بما يُقدَّر بـ 50 مليون دولار.
اتبعت الولايات المتحدة الأميركية السياسة ذاتها، عندما جمَّدت أكثر من 5 مليارات دولار للحكومة الفنزويلية، أثناء الموجة الأخيرة من محاولات إسقاط النظام البوليفاري في فنزويلا.
وتلتقي كاراكاس وطهران في نفس الخندق، عندما تحاصر صادراتها النفطية ويمنع العالم من استيرادها، باستخدام نفس أدوات الهيمنة (ينظر تيار اقتصادي إلى المسألة على اعتبار أن غطاء الدولار القديم هو الذهب أما اليوم فهو النفط، ويختصرها البعض في عبارة القادري "ثراء العالم محفوظ بالدولار"، وربما تؤدّي الفكرتان إلى نفس المعنى).
عام 2014م، طالت العقوبات الأميركية على روسيا أكثر من 500 شركة روسية، و300 فرد، وارتفعت نسبة الفائدة، وانخفضت قيمة المُدخّرات، وارتفعت الأسعار، وكان ذلك شكلاً من أشكال الارتدادات الطبيعية للصدمة الأولى، ولا سيما أن روسيا الدولة القوية عسكرياً وفي قطاعات الصناعات الثقيلة لا يتجاوز ترتيب المؤسَّسة البنكية الأقوى فيها الترتيب 59 عالمياً. يطارد شبح المُدخّرات في البنوك الدول الضعيفة اقتصادياً مثل لبنان كذلك، ما يعني إمكانية تصنيع الأزمة وصناعة الاحتجاجات عبر هذه الثغرة. أما في حال الدول القوية إنتاجياً، كالصين، فتتم محاولات إضعافها عبر سد السوق الأميركي في وجه شركاتها، باستخدام قوانين الحماية الإغلاقية ورسوم الاستيراد.
لا تعني هذه السلسلة من العقوبات وآثارها على اقتصادات الدول، أن الهيمنة المالية الاقتصادية قدراً لا مناص منه، ولا محيد عنه.
في مؤتمر الاستثمار في روسيا عام 2019م، صرَّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إن العقوبات عادت بالفائدة على الاقتصاد الروسي على المدى الأبعد، حيث جعلت منه اقتصاداً أكثر سيادية، وعادت نِسَب النمو في الاقتصاد إلى الارتفاع (إحصائيات بين 0.8 إلى 1.3%). ربما تتشابه الحال الروسية مع الحال الإيرانية هنا، التي عادت نِسَب النمو فيها إلى الارتفاع بعد صدمة الانسحاب من الاتفاق النووي.
في سياقٍ متّصل، كثّفت إيران تبادلاتها مع الصين، خارج إطار الدولار (de-dollarization)، عبر نظام المُقايَضة، وتعمَّقت المحادثات عام 2019م لتعميق هذا النظام من التبادل.
في الوقت نفسه، باتت الصين تمتلك البنوك الأربعة الأكبر عالمياً، الأمر الذي يُنذِر ببداية النهاية لاحتكار سوق المال (رأس المال المالي) من قِبَل الولايات المتحدة.
في خضم كل ما يجري، وبعيداً عن التفاؤل المُفرط، يبدو أن الخيمة الأخيرة للهيمنة الأميركية المُطلقة (النظام المالي) بدأت حقيقة تهتزّ، وستتشكَّل عناصر اهتزازها من نمو قوى الإنتاج الصاعِدة (التي تعرَّضت لعقوبات سرَّعت من مشروعاتها الإنتاجية الداخلية)، وزيادة الاعتماد على نظام المُقايَضة والتبادُل بالعملات المحلية، وتأسيس البنوك الجديدة.