"العمّ الروسي" .. إلتقط لحظات الفرح وخلّدها
كان ياكوبوفيتش دائم التواجد بين الأولاد، يعيش حياتهم ويسمّونه "العمّ الروسي". وقد استطاع التقاط صوَر مدهشة في بلدة سوق الغرب اللبنانية، تأخذنا إلى عالم اللعب والفرح.
إعتادت العين على النظر إلى صوَر جامدة لتلامذة مع معلميهم تعود إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، في فترة انتشار الإرساليات في فلسطين وسوريا ولبنان.
كان التلامذة والمعلمون يصطفّون برهبة في وضعية ثابتة أمام الكاميرا الكبيرة ذات الأرجل الثلاث، وينتظرون طويلاً حتى يأذن لهم المصوّر بالتحرّك. وتكون النتيجة صورة لأشخاص مصطفين في وضعيتي الجلوس والوقوف، بغضّ النظر عن عددهم وفئاتهم العُمرية وجنسهم، يحدّقون في عدسة هذه الآلة العجيبة التي ستجمّد اللحظة مرّة وإلى الأبد.
عدد قليل من المصوّرين كسر هذه القاعدة، وأحد هذه القلّة معلم روسي ترقّى في خدمة "الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية" ليغدو مفتشاً مدرسياً في سوريا ولبنان وفلسطين. إسمه ألكسندر إيفانوفيتش ياكوبوفيتش، يحفظ أرشيف الصوَر المتحف الحكومي للأرشيف الديني في العاصمة القيصرية سان بطرسبورغ أكثر من تسعين صورة له، تجسّد لحظات حيّة لها أبعاد إثنوغرافيّة وأنثروبولوجيّة، ولعلها من أهم الصوّر غير الرسميّة في ذلك الأرشيف.
"العمّ الروسي"
يعود الفضل في الكشف عن مجموعة صوَر ياكوبوفيتش إلى الباحثين تاتيانا كوفاشيفا بحر وبيوتر فيدوتوف، حيث عملا على نبش الأرشيف الكبير للمدارس المسكوبيّة والجمعية الفلسطينية في المتحف الحكومي للأرشيف الديني في بطرسبورغ، وأصدرا كتابهما "المدارس المسكوبيّة في لبنان 1887 – 1914"، في العام 2012، بعناية من الملحق الثقافي والإعلامي في السفارة الروسية في بيروت البروفيسور سيرغي ألكسندروفيتش فرابيوف.
بين صوَر ياكوبوفيتش نجد مواضيع مختلفة تتوزّع على مناظر للبيئة المأهولة وضواحيها، والكنائس والحجاج والناشطين العاملين في الجمعية الفلسطينيّة، إلى جانب صوَر المدارس.
في نهاية عمله مفتّشاً سنة 1898، صوّر ياكوبوفيتش التلاميذ في مختلف أنحاء فلسطين وسوريا ولبنان. يعيش الأولاد في صوَر ياكوبوفيتش لحظات فرحهم وحياتهم الخاصة بهم، فتراهم يتحدّثون في ما بينهم، أو يجلسون في باحة المدرسة حيناً، أو يتوجّهون إلى الصفوف بعد الفرصة حيناً آخر، أو يغنّون ويلعبون أو يدورون في دوائر حول أنفسهم أو يعملون في الحديقة أحياناً أخرى.
وكان ياكوبوفيتش دائم التواجد بين الأولاد، يعيش حياتهم ويسمّونه "العمّ الروسي". وقد استطاع التقاط صوَر مدهشة في بلدة سوق الغرب اللبنانية، تأخذنا إلى عالم اللعب والفرح.
صبية وفتيات
إستطاع الخبراء معالجة الصوَر التسعين التي ضمّها أرشيف ياكوبوفيتش، فأظهر بعضها أطفالاً يلعبون في باحة مدرسة سوق الغرب المختلطة، في متصرفية جبل لبنان، سنة 1898، والتي كانت تضم الصبية والفتيات من مراحل الروضة حتى المرحلة المتوسطة.
والأقرب إلى الواقع أنّ ياكوبوفيتش، في آخر سنوات عمله وتحت وطأة المرض الذي أدى به إلى ترك الشرق، كان ميّالاً إلى الابتعاد عن الأسر التعليمية في المدارس، فكان الأطفال ملجأه ووجد فيهم الفرح والطيبة والسكينة. راقب ألعابهم المختلفة أثناء الفرصة (الفسحة بين الحصص)، والتقط ما استطاع إليه سبيلاً بعدسته.
من الألعاب، لعبة "سلوى"، التي تخصّ الفتيات، حيث تشكّل اللاعبات دائرة يضعن إحداهن – سلوى المتباكية وسطها، فيدرن حولها، ويردّدن عدّية تقول: يا سلوى ليش عم تبكي، قومي نقي البدّك ياه. فتقوم سلوى باختيار فتاة من الفتيات لتأخذ دورها.
ولعبة أخرى تصطف فيها الفتيات أكبر سناً صفين متقابلين، فينشد الأول مع تراجع الثاني: يمسيكم بالخير، بالله أعطونا بنتكم هل الحلوة الصبية. فيرد الفريق الثاني: ما منعطيكم ياها إلا بألفين ومية. فيرد الأول: مننزل عا دارها، ومنكسّر حجارها، هيّ عروستنا. فتهجم فتيات الفريق الأول مجتمعات على إحدى فتيات الفريق الثاني ويختطفنها لضمّها إلى فريقهن إن أفلحن في ذلك.
ومن ألعاب الصبية، ثالثة تسمّى "يا أمّ اسكندراني"، تعتمد القفز فوق الظهر، حيث يقف أحد الأولاد عند أول الملعب ويضع يديه على ركبتيه ويحني ظهره، ويأتي لاعب ليقفز فوق ظهره، ثم يبتعد عنه نحو مترين وينحني أيضاً، فيأتي ثالث ليقفز فوق الأول والثاني وهكذا.. ويردّد كل واحد من القافزين شطراً من عدّية. واللعبة لا تنتهي إلا بعد أن ينهك التعب اللاعبين أو يأخذهم الملل. والعديّة هي: يا أمّ اسكندراني/ يا أمّ عيون الغزلان/ قتلني ما قتلتو/ ما قتل غير بن عمي/ شلح السيفين مني/ دهشهم بذنب عنتر/ وقع القضيب وتقنطر.
هذه الألعاب وغيرها وثّقتها عدسة ياكوبوفيتش، وحفظتها لنا، بعد زوالها، مدوّنات أنيس فريحة، ولحد خاطر، وعيسى المعلوف وسلام الراسي. بإمكاننا انتقاد ياكوبوفيتش ببساطة، على نسبة الضوء في صوَره، أو على مستوى تركيبتها الفنيّة، أو على جودة آلة التصوير التي كان يحملها ويركض خلف مشهد هنا أو هناك، إلا أنّ ما يعوّض عن ذلك النقص، هو الجو الخاص الذي تميّزت به الصوَر التي تجسّد أحداثاً فاتت المصوّرين الآخرين في عصره، واستطاع أن ينظر بعين محترفة.
وقد انضمّ ياكوبوفيتش بأعماله التي تجسّد بلادنا، بعد عودته إلى روسيا، إلى مجموعة مميّزة من المصوّرين الهواة نهاية القرن التاسع عشر. ضمّت هذه المجموعة كذلك الأمير ألكسندر غاغارين الذي كان قائماً بأعمال القنصل العام في بيروت ونائباً له إثر رحيل القنصل قنسطنطين بيتكوفيتش سنة 1896، ثم عاد إلى بيروت قنصلاً عاماً بين العامين 1906 و1911.
كما ضمّت الدوق إيفان غريغوريفيتش نوستيتس (1824 – 1905)، الذي كان قائداً عسكرياً جال في القرم والقوقاز وداغستان وجورجيا.
المعلّم والناظر
بعد تحصيله قدراً من العلوم في معهد ستافروبول التابع للأكاديمية الطبيّة الحربيّة، وقبل أن ينهي دراسته سافر ألكسندر ياكوبوفيتش إلى الجنوب، فعمل لعدّة سنوات في مدرسة سكورين، وهي مدرسة قرويّة أمّنت له معيشة متواضعة، ثم التحق بشركة الملاحة والتجارة، وهي شركة روسيّة بحرية تأسّست سنة 1856، كان أحد أهدافها تنظيم رحلات الحجاج الروس إلى الديار المقدّسة، وقد تمّ تأميمها في العام 1918 كباقي الشركات الإمبراطورية.
خلال عمل ياكوبوفيتش في هذه الشركة سنة 1890، تعرّف إلى فاسيلي نيكولاييفيتش خيترفو (1834-1903)، الذي كان شخصية مهمّة في الشرق الأدنى، وهو كاتب وموظف حكومي وناشط اجتماعي روسي، والسكرتير الأول للجمعية الفلسطينية وأحد مؤسّسيها.
بقي خيترفو بعد تعرّفه إلى ياكوبوفيتش على صلة معه، خاصّة عندما يكون في أوديسا مركز انطلاق بواخر الشركة، وكان ياكوبوفيتش يعمل على باخرة "تشيخانشوف".
يقول خيترفو: أثار لديّ انطباعاً جيّداً فهو متواضع وهادئ ومثابر ويرغب بالعمل بقدر استطاعته. قبل ياكوبوفيتش عرض خيترفو بالعمل في معهد الناصرة للبنين، براتب وقدره 200 فرنك، على أن يصطحب معه زوجته التي رضيت بالعمل ممرضة في مستوصف المدرسة فصرفت لها الجمعية راتباً شهرياً مقداره 50 فرنكاً.
في الناصرة، عمل ياكوبوفيتش معلّماً ثم ناظراً، جنباً إلى جنب مع المعلم العربي الأول في المدراس الروسية إسكندر جبرايل كزما الدمشقي (1860-1935)، الذي يعدّه الباحث حنّا أبو حنّا أهمّ شخصية عربيّة في مسيرة المعاهد الروسيّة في فلسطين، وقد قادت الصدفة أبو حنّا إلى الالتقاء بحفيدة كزما السيّدة نجاة خوري، التي زوّدته بمفكرة إسكندر كزما الخاصة بين العامين 1895 و1898، لتشكّل أحد أهم مصادر بحثه "طلائع النهضة في فلسطين – خرّيجو المدارس الروسية، 1862 – 1914".
ولعلّ أبرز الخرّيجين اللبنانيين على أيدي هذين المعلمين الجليلين كان ناسك الشخروب الأديب الكبير ميخائيل نعيمة (1889 – 1988)، الذي أنهى دراسته في معهد الناصرة للبنين، ثم أرسلته الجمعية إلى المعهد العالي في مدينة بولتافا الأوكرانيّة للدراسة بين العامين 1905 و1911.
المفتش المدرسي
تميّز ياكوبوفيتش بقدر كبير من الحماسة والتنظيم والمنطق العملي، ما جعل الجمعية الفلسطينيّة تعيّنه مفتشاً على مدراسها في فلسطين ثم في سوريا ولبنان.
كان شخصاً ملتزماً يتحلّى بحسّ عال من المسؤوليّة، ما أدى إلى تزايد عدد المدارس بشكل ملموس في فلسطين بين العامين 1891 و1896، ففي البداية كان قد استلم مسؤولية النظارة على ثماني مدارس، إلا أنّه عندما ترك فلسطين، بعد ست سنوات، خلّف وراءه 18 مدرسة في منطقة الجليل وحدها.
وترك ياكوبوفيتش مذكرات تفصيلية يصف فيها رحلة قام بها في ربوع الأراضي المقدّسة في القدس وضواحيها، ثم ينتقل إلى عكا والجليل وصولاً إلى صفد، وقد نشر هذه النصوص في حلقتين مجموعهما 130 صفحة من صفحات مجلة "المجموعة الفلسطينيّة" التي كانت تصدرها الجمعية، والنصّ بعنوان "رحلة عبر فلسطين برفقة طلاب معهد الناصرة للبنين"، سنة 1898.
نقلت الجمعية ياكوبوفيتش إلى سوريا (ولاية دمشق، ولاية بيروت، ومتصرفيّة جبل لبنان) في العام 1896، حيث بات مفتشاً مدرسياً، لكنّه لم يستمر في العمل طويلاً، فبعد سنتين اضطر إلى ترك الجمعية والشرق بسبب وضعه الصحي، لكنّ الجمعية أمّنت له معاشاً تقاعدياً مدى الحياة، يساوي المرتّب الذي يتقاضاه المفتش المدرسي على أراضي روسيا القيصريّة، أي 900 روبل سنوياً، على الرغم من أنّه خدم في الجمعية لمدة عشر سنوات فقط، لكنّها ارتأت أن تعامله معاملة من خدم فيها 35 سنة، وذلك للأثر الكبير الذي تركه، بشهادة الجمعية في تقاريرها، التي رأت فيه شخصاً فذاً كان يتمكّن دائماً من إقناع الأهالي ورجال الدين معاً بضرورة فتح مدارس في المناطق الآهلة بالسكان.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]