فرانز فانون.. حفيد "العبيد "الذي صار أيقونة ثورية
بعد اكتشاف أمره أُبِعدَ فانون من الجزائر ليلتحق بعدها بالثورة الجزائرية رسمياً في قواعدها على الحدود مع تونس.
بعد نجاح الثورة الجزائرية في إطلاق حرب تحريرٍ واسعةٍ ضد استعمارٍ استيطانيٍّ عنيف دام لأكثر من 130 عاماً، بدأت تستقطب دعم الكثير من عربٍ وأوروبيين وغيرهم. تراوح ذلك الدعم بين جمع التبرّعات والتأييد المعنوي والانخراط في صفوف جيش التحرير الوطني من جهة، ومن بعض الجزائريين من ذوي الأصول الأوروبية المختلفة (من أبناء أو أحفاد المستوطنين الذين فاقت أعدادهم المليون أثناء الثورة) من جهةٍ أخرى، مثل بيار شولي وزوجته كلودين، وإيميل شكرون... وبعضهم قدّم روحه فداءً لها، كالشهيد هنري مايو، وفرناند إيفتون.
لكن طبيباً مارتينيكياً شاباً إسمه فرانز فانون انفردت قصة انتمائه للثورة الجزائرية بتميّزٍ جعل منه واحداً من مُثقّفيها، فلم يكتف بالدفاع عنها أو دعمها، بل تبنّاها بالكامل ونظَّر لها، فمَن هو فرانز فانون؟
حفيد "العبيد ".. من الدفاع عن الجلاّد إلى الانتماء لأعنف ثورةٍ عليه
عندما ولِدَ فرانز فانون في العشرين من شهر تموز/يوليو 1925 في فور دو فرانس Fort-De-France الواقعة في جزر المارتينيك التابعة لفرنسا، كان أبواه المنحدران من العبيد البائسين الذين استقدموا قبل ثلاثة قرون من أفريقيا، ينتميان إلى برجوازيةٍ جديدة (كان أبوه مفتشاً في الجمارك وزاولت أمّه تجارة صغيرة في المدينة) شكّلتها الإدارة الفرنسية لدعم مشاريع إدماج الأهالي المحليين التي باشرتها في مستعمراتها. هكذا انضمّ فانون الشاب إلى المقاومة الفرنسية ضد النازيين سنة 1943 باعتباره مواطناً فرنسياً وهو الذي تعلَّم أن يردِّد في المدارس الفرنسية،(كما أقرانه من الجزائريين وباقي أبناء المستعمرات الفرنسية)، قصص أمجاد الآباء الغاليين les Gaulois كما كتب في كتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء".
تعرَّف على المناضل والمفكّر اليساري إيمي سيزار وتتلمَذ على يديه لتُشكِّل أفكاره مفصلاً هاماً في حياته الفكرية، ثم انتقل إلى جامعة ليون في فرنسا لدراسة الطب بعد نيله لشهادة البكالوريا سنة 1946، لكن تكوينه الطبي لم يثنه عن دراسة الفلسفة والأدب، وهي الدراسات التي نجدها حاضرة في كتاباته، من خلال إحالاته على نصوصٍ لفلاسفة ومفكّرين كماركس، ليفي ستروس، هيغل، لينين و فرويد.
بعد تخصّصه في الطب النفسي عمل في فرنسا ثم أُرسِل سنة 1953 إلى مدينة البليدة في الجزائر، حيث عمل في مستشفى الأمراض العقلية لثلاث سنوات حتى استقالته عام ،1956 بعد مرور سنتين على قيام الثورة. رسالة استقالته التي وجّهها للوزير الفرنسي روبير لاكوست كانت تتويجاً لقناعة راسِخة لديه باستحالة مواصلة عمله في ظلّ ظروف صعبة، عاين فيها حالات الجنون والاضطرابات النفسية للجزائريين المرضى في مستشفى البليدة والتمييز في المعاملة بين ذوي الأصول الأوروبية والمسلمين.
حاول الطبيب الشاب مُعالجة بعض تلك الحالات بعد تشخيص أسبابها الاجتماعية المرتبطة بسياسات العزل الاجتماعي والاستلاب الممارَسة ضد المرضى الجزائريين، وإدخال أساليب "العلاج الاجتماعي" و "العلاج المهني" (وُوجِهت بعراقيل من الإدارة)، هدفت لتحرير المريض من القيود المفروضة عليه وربطه بجو اجتماعي ينسجم مع بيئته الأصلية.
لهذه الغاية أسَّس فانون في المستشفى جريدة ومقهى تقليدياً، وملعباً، وفريقاً لكرة القدم، ونسج علاقات جيّدة مع المرضى والممرضين وصولاً لاستعمال الموسيقى في العلاج بتشكيل مجموعة موسيقية شعبية بمساعدة أحد ممرضي المستشفى الذي أصبح واحداً من المغنيين المعروفين في الجزائر المستقلّة (عبد الرحمن عزيز صاحب أغنية "يا محمّد مبروك عليك الجزاير راها رجعت ليك" الشهيرة)، لكنه في الأخير وصل إلى ترسيخ قناعاته عن دور "الطب الإستعماري" في قهر الجزائريين المُستعمَرين، والتي بدأ بتجسيدها بنشاطٍ ثوري على الأرض تمثّل في توفير المعلومات والدواء لجيش التحرير(المجاهدين) من خلال مساعديه بيير شولي وزوجته كارولين وإيواء بعض قادته.
بعد اكتشاف أمره أُبِعدَ فانون من الجزائر ليلتحق بعدها بالثورة الجزائرية رسمياً في قواعدها على الحدود مع تونس، فمارس الطب في مستشفى في منوبة معالجاً ضحايا التعذيب من الجزائريين والتونسيين وكاتباً في جريدة "المقاومة" ثم "المجاهد" لسان حال الثورة الجزائرية، ثم سفيراً ومبعوثاً للحكومة الجزائرية المؤقتة.
الاستلاب الثقافي والعنف الثوري
في كتاب صدر بعنوان "من أجل إفريقيا" سنة 1961 جُمِعَت فيه مقالاته التي كتبها في جريدة "المجاهد" تطرّق فانون إلى العلاقة بين الثقافة والعنصرية، فلا يهدف الاستعمار، بنظره، للهيمنة الاقتصادية والعسكرية وحسب، بل إلى ترسيخ الهيمنة الثقافية من خلال غرس "مُركّبات النقص تجاه المُستعمر" وتحطيم الإرث الشعبي والديني واللغوي للشعوب المُستعمَرة.
الأمر الذي خلق "كتلة مثقفة "من المُسْتَعْمَرِين تذم خصوصياتها الثقافية وأنماط معاشها وتجعل منها عوائق لنهضتها، وتقبل بالسيطرة بل وتُنظِّر لها، كحال بعض المُثقّفين الجزائريين الذين تعالوا على شعبهم وبدا لهم مطلب الاستقلال غير متاح، وهذا يتقاطع بلا شك مع فكرة مالك بن نبي عن "القابلية للاستعمار".
كما يمثل العنف الثوري أيضاً واحداً من الأسُس الناظِمة لفكر فانون. فهو يعتقد أنه مهما كانت المُسمّيات والمصطلحات؛ "تحرّر وطني أو نهضة قومية، أو انبعاث شعبي. فإن محو الاستعمار هو عمل عنيف دائماً"، كما جاء في مُؤَلَّفه "معذبو الأرض".
فالعنف الإستعماري الهائج الفاقِد للعقل لا يمكن مواجهته إلا بعنف ثوري كالذي مارسته الثورة الجزائرية، يقطع الصلة بصفةِ جذرية بين الجلاّد والضحية الذي لن يستطيع التخلّص من استلابه إلا بممارسة العنف الثوري المُنظَّم بأقسى حالاته. فالمُستَعْمَر لا يعالج مرضه الاستعماري سوى باقتلاع الوجود الاستيطاني بعنف، والعنف الذي يدعو إليه فانون لا يستهدف الاستعمار فقط، بل المنظومة القِيَمية التي يرعاها من خلال الفئات المثقفة المحلية المُستلبة التي تروّج لمشاريعه أو ترفض مواجهته تحت مُسمّيات التعايش أو النضال السلمي. ذلك أن الخلاص من القابلية للاستعمار بتعبير بن نبي والوعي بالهيمنة هي الشرط الأساس لإطلاق العنف الثوري التحرّري.
"إبراهيم فرانتز فانون"
من المعروف أن تتلمَذ فانون على يد المفكّر اليساري إيمي سيزار بالإضافة إلى قراءاته الفلسفية، عززَّت فكره وحرَّرته من وَهْم "المواطنة الفرنسية" الذي خلقه انتماؤه للطبقة للبرجوازية المارتينكية الصغيرة المندمجة في النسيج الاجتماعي الفرنسي.
لكن معايشته للواقع الكولونيالي في الجزائر من خلال تجربته الطبية وتشخيصه لحالات الجنون والاضطرابات النفسية للمرضى الجزائريين وربطها بالتمييز العنصري والاستلاب الثقافي المفروض من الاستعمار، ثم انتماؤه للثورة وتعرّفه على إيديولوجيتها، من خلال احتكاكه بالجيل الأول من قادتها الأوائل، تلك الايديولوجية التي توّجت مساراً طويلاً من النضال والتراكم بدأ منذ خروج منظمة "نجم شمال إفريقيا" في منتصف عشرينات القرن العشرين من رحم "الحزب الشيوعي الفرنسي"، ثم انشقاقها عنه في سياقٍ تاريخيٍ معيّن، وتأسيسها لخطابٍ وطنيٍ استقلالي جذري تشكّلت معه "الوطنية الجزائرية الحديثة" بقيادة مصالي الحاج، وصولاً إلى تأسيس الجناح العسكري (المنظمة الخاصة) الذي فجّر الثورة، أثَّرا فيه بأن جعلاه يتخلّص من الرواسب الأورو - مركزية والتنظيرات الثقافوية في رؤيته الفكرية. فأصبح فانون كغيره من مُثقّفي الثورة وقادتها يوظّف الخطاب الماركسي أو الاشتراكي ضمن خصوصيات المجتمع الجزائري الثقافية والاجتماعية والدينية، فنجده في كتابه "سوسيولوجية ثورة" يدافع بقوّة عن تلك القِيَم (قضايا المرأة والأسرة واللباس التقليدي النَسوي المعروف بالحايك)، في معرض حديثه عن التغييرات الجذرية التي أحدثتها الثورة في الإنسان الجزائري ويجزم بأن الحفاظ على الثقافة والهوية الوطنية وتعبئتها يعتبر جزءاً من المواجهة الكبرى مع المستعمر، بعدما كان يطالب بعكس ذلك قبل انضمامه للثورة بسنوات. لقد تخلّص فانون بفعل الثورة من آثار "الفكر الزنوجي" الذي تبنّاه بحدّة، وأصبح يعي أن المقاومة ضد الهيمنة هي وحدها ما يجمع الشعوب المُستعمَرة وليس لون البشرة، ويمكن اعتبار كتابه الآخر "معذبو الأرض" الذي نشره عندما كان سفيراً للحكومة المؤقتة الجزائرية في غينيا والذي أسّس فيه لنظرية "العنف الثوري"، محاولة لتعميم التجربة الثورية الجزائرية الريفية في العالم.
لكن أدبيات الثورة الجزائرية بدورها تأثّرت، قبل وبعد الاستقلال، بلغة فانون المعرفية في صوغ خطاب عالم ثالثي يجعل من معركة التحرّر الوطني في الجزائر جزءاً من معركة عالمية ضد الهيمنة لكل "دول الجنوب" في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.
توفى فرانز فانون قبل 8 أشهر من إعلان استقلال البلاد التي ناضل من أجلها، فدُفِن في مقبرة الشهداء في ولاية الطارف شرق الجزائر، ولا تزال الشوارع أو المستشفيات المُسمّاة باسمه تُذكِّر الأجيال الشابة بقصة أيقونة ثورية جزائرية أفنت حياتها من أجل الحرية والعدالة.