صباح الحافلة الحراق

وقف والد يمني أمام شاحنة صغيرة. يبحث. يقلب أشلاء الصغار. يتلمس جسد طفله. يعثر عليه. يئِن. يشد حافة الشاحنة ملتقطاً روحه المنفلتة نجواها صوب السماء.

الحافلة التي كانت تقل الأطفال اليمنيين إلى مدرستهم

"نفسي الفداء للصغار النائمين، بممر مستشفىً على برد البلاط بلا سرير خمسة أو ستة متجاورين، في صوف بطانية فيها الدماء مكفنين" – تميم البرغوثي –

لم يهنأ لنا ركوبٌ في حافلة المدرسة. نسير بخطىً بطيئة صوبها. علّ السائق يسأم الانتظار ويرحل. أكثر مشقاتنا تذكّر ما تناسينا مذاكرته بالأمس مستشرفين عقاباً نلتمس هروباً منه. تمنينا لو قطع طريقنا لنعود إلى دفء بيوتنا. لا طائل من أملنا بذلك. هذا قدر الصغار، كي يكبروا. لكن ضحيان اليمنية، كان قدرها أن تنتهي في حافلة مدرستها، أعمار أطفال ما غاب عنهم حلم المستقبل، بغارة جوية للتحالف السعودي، أسدلت الستار على حياتهم.

بعد انقشاع الدم. وقف والد يمني أمام شاحنة صغيرة. يبحث. يقلب أشلاء الصغار. يتلمس جسد طفله. يعثر عليه. يئِن. يشد حافة الشاحنة ملتقطاً روحه المنفلتة نجواها صوب السماء. يئِن. كأنه يبحث عن ضالته بين المجتمعين. الضالة هنا ليست ابنه الشهيد فقط، بل غمرته الناعمة عندما يعود، من مدرسة كان الدرب صوبها، صباحاً، لاهباً حراقاً.

تسعة وعشرون. اسماً اسماً. حقيبة حقيبة. لقيت كتبهم الصغيرة حتفها بغارة سعودية. أكدتها المنظمات الدولية. غارة على هدف جديد. حافلة أطفال. ترى؟ هل هو خطأ في تشخيص الهدف؟ لكن، وقبل أسبوع، كانت الحديدة تتأهب لجنازِ ضحاياها. سقطوا بجرمهم عند ميناء الاصطياد السمكي وبوابة مستشفى الثورة العام. هناك. في الحديدة. شاب لف بدمه والأبيض. يقف والده فوقه باكياً. بوقار عمره، يبكي أمام المعزين، والمقتلة ما تزال حرة بعد.

من الحافلة. يخرجون طفلاً حنى رأسه. تخاله ميتاً حتى ينزلوه الأرض. يبدو كمن يحاول استيعاب الحدث. على ظهره، حقيبة مدرسية زرقاء. زودته بها "اليونسيف". مغبرة الحقيبة. لا يخلعها. يسير بها محمولاً صوب أحد مشافي صعدة. هناك، يصرخ طفل لف رأسه بضماد. يتهرب كعادته من لوازم الإسعاف. هذا دأب الصغار، حتى وسط الألم. آخرون يشاطرونه السلوك بوجوه شاحبة ملؤها الأسود. أسود الانفجار عندما أطلّت عليهم طائرة من علٍ وأجبرتهم على الرحيل.

وبعد .. في غرفة المستشفى. على أرضها. بالأبيض كذلك. جثث عديدة. جمعت. منذ سنين وقد جمعت. لا مكان للمقابر في اليمن. كل ما هو تحت القصف. مقبرة. وضريح.

واحداً واحداً. رقد أطفال الحافلة متأهبين ليوم تنتهي فيه الحرب .. وأهليهم يتجهزون لمأساة مقبلة، ربما، ليخرج بعدها المتحدث باسم التحالف معرباً عن "شرعية" هجومه.