الطائرة الروسية طليعة الحضور الروسي في لبنان

بعد الانتصارات التي حققها محور المقاومة في سوريا، واختلال ميزان القوى فيها لصالح هذا المحور، كان من المرتقب أن تنعكس تلك الانتصارات على الساحة اللبنانية بشتى الطرق، في الوقت الذي يعرف القاصي والداني كم أن ظروف لبنان هي انعكاس لظروف المنطقة، وكم أن تطورات المنطقة طالما أرخت بظلالها على الواقع اللبناني في مختلف مراحل تاريخه.

سبوتنيك: الطائرة التي خرقت أجواء لبنان الشمالي يوم الأحد 27 أيار تعود لسلاح الجو الروسي

أوضحت وكالة سبوتنيك الروسية هوية، ودور الطائرة التي خرقت أجواء لبنان الشمالي يوم الأحد 27 أيار، وبعد أن أكدت أنها تعود لسلاح الجو الروسي، أوضحت أن السبب يكمن في أن "هذا البلد لا يملك وسائل دفاع جوي، وطيران جيد، ويستخدم الجانب الإسرائيلي المجال الجوي اللبناني بالتحديد لضرب أهداف عسكرية في سوريا".

الانزعاج الروسي من اتخاذ الطيران الاسرائيلي من الأجواء اللبنانية مجالا لضرب أهداف عسكرية في سوريا يقبلها العقل، ولها تفسير و مبرر.

كما أن في التلميح إلى أن "البلد لا يملك وسائل دفاع جوي، وطيران جيد"، ففيه إشارة لما يريد أن يقوله الروسي للبنان، مباشرة، بعد أن كانت الأقوال سابقا، ديبلوماسية وهادئة.

أما أن تخرق طائرة روسية بكل هذا الوضوح الأجواء اللبنانية، وعلى عمق كبير يناهز ثلث الحدود البحرية اللبنانية، أي حتى البترون، فلا بد أن ذلك نقطة تحول على الصعد الاستراتيجية، والأمنية، والسياسية.

بعد الانتصارات التي حققها محور المقاومة في سوريا، واختلال ميزان القوى فيها لصالح هذا المحور، كان من المرتقب أن تنعكس تلك الانتصارات على الساحة اللبنانية بشتى الطرق، في الوقت الذي يعرف القاصي والداني كم أن ظروف لبنان هي انعكاس لظروف المنطقة، وكم أن تطورات المنطقة طالما أرخت بظلالها على الواقع اللبناني في مختلف مراحل تاريخه. 

لكن انعكاس الانتصارات الاقليمية على لبنان لم يكن بقدر حجمها، اللهم إلا في الانقلاب البسيط في ميزان القوى نتيجة الانتخابات النيابية الأخيرة، وتحقيق محور المقاومة، وأصدقائه، ومن لف لفه، أكثرية بسيطة في المجلس النيابي يجعله أكثر قدرة على التحكم بمسار الأمور، لكنه لم يصل إلى مرحلة السيطرة التامة على قرارات السلطة السياسية، ويعني ذلك بالتالي، مراوحة الوضع اللبناني في مروحة الدور المرسوم له منذ تأسيس كيانه 1943.

الروس، ومعهم سوريا، وإيران، وحزب الله، راقبوا حركة القوى السياسية - السلطوية اللبنانية، وهم يعرفون تركيبة البلد، ومدى الخرق الثقافي، والإيديولوجي، والسياسي للغرب للبنان، خرق تمادى تاريخه فحوَل البلد إلى موقع فرانكوفوني، وأنغلوساكسوني، ويانكي، وقريبا جرماني إذا ظلت الأمور سائرة على ما هي عليه حاليا، ويمكن القول إن لبنان بات تركيبة غربية بامتياز على المستويات السياسية والثقافية، والأهم الارتباط.

ترقب اركان المحور المقاوم بعض خطوات من أركان السلطة اللبنانية، خصوصا من تياريها الأكبرين افتراضا: المستقبل والوطني الحر، تترجم فهماً لانتصار محور المقاومة في سوريا: تقرب أو انفتاح على المنتصر، وتغير في الأداء كالقبول بتسليح الجيش من غير الدول الغربية، كروسيا وإيران (من هنا أهمية العبارة الروسية ان لبنان لا يملك وسائل دفاع جوي جيد، وطيران جيد)، والقبول بتنوير البلد بكهرباء مشرقية المصدر إن من سوريا أم إيران، بديلا من صفقات البواخر، أم التواصل مع السلطات اللبنانية بهدف إيجاد حل لمعضلة النازحين السوريين، أم الوضوح في تلزيمات ملف النفط، ومستتبعاته، دون إغفال تدريس الدبلوماسية اللبنانية الفذة للدبلوماسية السورية "الخرقاء" لأصول العمل الدبلوماسي، تحديدا في أحد ملفات النازحين السوريين في لبنان.. الخ

لكن أركان السلطة الرئيسيين لا يريدون الإقرار بالمتغيرات، ويصرون على متابعة ممارسة دورهم على الطريقة التقليدية، والتي مارسوها منذ أن جرى تحضيرهم للعب الأدوار التي يقومون بها.

كل ذلك لم يحصل. ضرب اركان السلطة المتغيرات بعرض الحائط. اعتادوا أن لا يفكروا، بل أن يتلقوا التوجيهات، والتعليمات، وما زالوا. جهالة لبنانية بامتياز لدى القوى السياسية اللبنانية.

المحور الآخر، محور المقاومة، وروسيا، تعاملوا مع الواقع اللبناني بكل شفافية، وحذر، كأنهم لم يريدوا خدش حيائه، أو جرح خاطره. ما انفك السوري لا يتدخل بقوة، والروسي يلامس الوقائع اللبنانية بخفر، والسفير الروسي لا يستخدم إلا اللغة الدبلوماسية مع لبنان، خلاف تعامله القاسي مع خصومه في المواضع الأخرى، والسيد نصرالله يصر على عدم قلب ميزان القوى في لبنان بطريقة دراماتيكية، بل لامس الواقع اللبناني بأقل بكثير من الوقائع المستجدة، وقال في خطبه أن المتغيرات اللبنانية في المعركة الانتخابية لن تكون كبيرة، أي بحجم المتغيرات الاقليمية، فجاءت النتائج أقل من فوز كاسح لهؤلاء، وأكثر من خسارة طفيفة بقليل لأولئك.

كثيرة هي الملفات التي ما زال أركان السلطة اللبنانية يتعاملون معها بالمنظور الذي سبق انتصار محور المقاومة وحلفائه. زاروا كل دول العالم وعواصمه، ولم يزر أحد منهم سوريا الجارة القريبة للتنسيق والتعاون لما بعد مرحلة الأزمة السورية. تعاطوا مع ملف النازحين بخفة مشوبة بتوتير دولي لا يريد حلا للنازحين، بل إبقاءهم قنابل موقوتة في لبنان للاستخدام عند الحاجة. لم يريدوا التوقيع على اتفاقية التعاون العسكري لا مع إيران ولا مع روسيا، والغاية إبقاء لبنان تحت الجزمة الاميركية. لم يتحدثوا بكلمة واحدة عن التعاون مع دول الاقليم، خصوصا سوريا وإيران في ملف الكهرباء، وآثروا صفقات البواخر. كل سياساتهم ما زالت مضبوطة بالسقف الأميركي-السعودي- الأوروبي. ولم تُجدِ نفعا الديبلوماسية الناعمة للسفير الروسي في لبنان الكسندر زاسبيكين، واحترام البلد، وقراراته، وعدم التدخل بشأنه الداخلي، ظنا منهم أن الموقف الناعم، الديبلوماسي ضعف أمام "جبروت" أسيادهم التاريخيين، الأميركيين، ودول الغرب، ولم يدركوا أن هذه الجبروت تهاوت تحت أقدام شهداء الجيش السوري، وحزب الله وكل المحور المقاوم.

وفي الوقت الذي يتصلب فيه الموقف الروسي في المنطقة، ممسكا بزمام الأمور، وبالكثير من القرارات المتعلقة بالمنطقة، وباسطا المزيد من الحضور والنفوذ، بكل قوة، ومعتبرا أن منطقة الشرق الأوسط هي متنفسه الوحيد، وامتداده الاستراتيجي إلى المياه الدافئة، وعمقه على مختلف الأصعدة، تواصل الدبلوماسية اللبنانية السير في معايير المرحلة الماضية، السابقة لما عرف بالربيع العربي، المتوافقة والمتوازية مع السياسات الغربية، لا بل هي صدىً لها، فكان لا بد من لفت النظر إلى متغير ما جرى في المنطقة، وعليكم أيها الحكام اللبنانيون أخذه بعين الاعتبار.

ولا بد من التذكير بالدور الروسي في النصف الثاني من القرن الـ 19 في المنطقة، قبل تقسيمها باتفاقية سايكس -بيكو. فقد حضر الروس إلى المنطقة عبر مدارسهم الكثيرة التي قدمت العلم والتربية لمختلف المناطق المشرقية، خصوصا في لبنان، وفلسطين، وسوريا، ولم تكن ثمة حدود بين هذه المناطق. أسس الروس "الجمعية القيصرية الفلسطينية الروسية" في القدس، وأول مدرسة فتحوها كانت في المجيدل بقضاء الناصرة، ثم انطلقوا لتوزيع مدارسهم باتجاهات شتى. كانت طريقتهم ثقافية، وعلمية، وتربوية غير استعمارية، ولم تستخدم العنف. عشرات، وربما مئات المدارس الروسية، حملت العلم إلى المنطقة في تلك الفترة، وببلوغ الحرب العالمية الأولى، ووقوف روسيا والدولة العثمانية موقفين متعارضين في الحرب، اضطر الروس لإقفال جمعيتهم، ومدارسها.

يعود الروس إلى المنطقة من بوابة أوسع بكثير من البوابة الثقافية. أتوا المنطقة في بداية التطورات العربية دفاعا عن مصالحهم الاستراتيجية، خصوصا بعد أن لمسوا أن الحلف الأطلسي لم يكن صادقا في وعوده لدى الهجوم على ليبيا، وأدرك الروس أن السيطرة الغربية تتفاقم في المنطقة، وأنهم، كما سواهم من الدول الاقليمية كإيران والصين، مستهدفون من الخطط الأطلسية، والأميركية تحديدا. فكان لا بد لهم من الوفود بكل قوتهم دفاعا عن مصالحهم، ومنعا لامتداد السيطرة الغربية على المنطقة، وما يلحقه ذلك من أذى ببقية الدول.

وعندما تدخل الروس لحماية سوريا، بدأوا يلعبون لعبة النفوذ والسيطرة، في مفهوم بديهي هو مفهوم بسط القوة طالما تمكنوا من ذلك.

واليوم، تشير مجريات التطورات والمواقف الروسية إلى انهم عازمون على أن يكونوا القوة الأقوى في المنطقة، ومن يحدد سياساتها، واستراتيجياتها، ونجحوا إلى حد بعيد في ذلك، في سوريا، حيث أقاموا تحالفا استراتيجيا، وبنوا قواعد عسكرية ثابتة، وفي تنسيق المواقف مع إيران وتركيا والعراق، وباتوا اللاعب الأول في المنطقة، ولم يبق خارجا عن إطار لعبتهم، ودورهم، إلا بقعة صغيرة في هذا الشرق الواسع، وهو لبنان.