فيسبوك، عن الخصوصية و"الأخ الأكبر"
يجري التعامل مع الفضيحة على أنها الحدث الاستثنائي، أو وصمة العار في جبين الشركة العملاقة، على الرغم من أنها ليست المرة الأولى التي تصل فيها بيانات فيسبوك إلى جهات أخرى.
حسب لوتشيانو فلوريدي في كتاب "الثورة الرابعة"، فإن حجم البيانات المنشورة على الانترنت وصل إلى 2.3 زيتابايت عام 2014م، وحسب الجمعية العالمية للبيانات (IDC)، فإن حجم هذه البيانات سيصل إلى 160 زيتابايت عام 2025م. مهما تباينت الأرقام، واختلفت طُرق الحساب؛ في كل الأحوال دخلت المنظومة التكنولوجية عهد الزيتابايت، والزيتابايت الواحدة أكثر من تريليون جيجا، تمثل رسائل الكترونية على بريد غوغل أو مايكروسوفت، ومحادثات و"بوستات" فيسبوك وسكايب، ومعلومات محفوظة على سحابة أمازون، وملفات مشتركة على drop box. هي باختصار المرحلة التي أسماها المفكّر فلوريدي، بمرحلة التأريخ المفرط، والتواصل المفرط. إننا نؤرّخ انطباعاتنا وانفعالاتنا وآراءنا بشكلِ دائم لتخزّن على الأقراص الصلبة في محطات التخزين الكبرى في العالم.
بعد دخولنا الألفية الثالثة، بدأ التفكير جدياً في كيفية الاستفادة من البيانات، وهي الخطوة الثانية بعد نجاح البشرية في حفظها أصلاً؛، الانتقال من قواعد البيانات إلى التنقيب فيها باعتبارها مناجم وليست مخازن. شمل ذلك جميع البيانات، بما فيها تلك غير المنشورة على الانترنت. المبدأ يقوم على أساس تخزيين بيانات لأطول فترة ممكنة (Historical data)، وبعدها تجري عملية التنقيب فيها (data mining)، عبر خورزميات كالشبكات العصبونية (neural networks)، ليتم استخلاص نتائج عامة واتجاهات وتنبوءات من هذه البيانات (Trends and prediction). من ذلك أن تقدم الشركات التكنولوجية حلولاً للبنوك للتنقيب في بيانات العملاء للتنبوء بسمات الأفراد الأكثر قدرة على سداد قروضهم، وحلولاً لمراكز التسوّق الكبرى لترتيب أصناف البضائع بالشكل الملائم لتحفيز الاستهلاك، وحلولاً لمراكز الخدمات في استهداف الفئة المرشّحة لشراء خدماتها. كل ذلك لم يكن على خطورة شعار فيسبوك في مرحلتها الثانية؛ "أن نبني مجتمعاً"، فالتنبوءات التي تقدّمها الشركات للبنوك ومراكز الخدمات ليست على صلة مباشرة بالدولة والسياسة والمجتمع كما هي الحال مع فيسبوك، وهنا تكمن الخطورة الأساسية في بياناته.
ركّز المنتقدون لفضيحة فيسبوك مع كامبردج أناليتيكا على زاوية بيع المعلومات وانتهاك الخصوصية، وهذه – على أهميتها – ليست مربط الفرس في القضية، وإنما الاستنتاجات والتنبوءات التي ستقدّمها كامبردج أناليتيكا بعد أن تشغل خوارزميّاتها على البيانات التي حصلت عليها من فيسبوك. معرفة موقع تواجد فرد محدّد ليست المسألة الأخطر، بقدر ما هو معرفة التوزيع الجغرافي حسب مواصفات الأفراد واهتماماتهم بدقّة. يستخدم فيسبوك (tracking cookies) للاطّلاع على المواقع الالكترونية التي يزورها المستخدم أثناء دخوله فيسبوك، والهدف ليس محصوراً بالتجسّس الشخصي بقدر ما هو بناء علاقات واستنتاجات من مجموع البيانات الضخمة حول اهتمامات المجتمعات والأفكار التي تشغلها بناء على تصنيفات دقيقة، وهذه الاستنتاجات ليست إحصائيات حاضرة فقط، وإنما تنبوءات مستقبلية أيضاً، تحاول استناداً إليها مراكز القرار التأثير في الرأي العام عبر فيسبوك مجدّداً، الذي يتحكّم عبر خوارزميّاته بنسبة ظهور كل شيء، بوصفه بوابة لوسائل الإعلام الكبرى اليوم.
من زاوية أخرى، يجري التعامل مع الفضيحة على أنها الحدث الاستثنائي، أو وصمة العار في جبين الشركة العملاقة، على الرغم من أنها ليست المرة الأولى التي تصل فيها بيانات فيسبوك إلى جهات أخرى. تصل بيانات فيسبوك إلى وكالة الأمن القومي الأميركي (NSA)، وهذا ما تضمّنته الوثائق التي سرّبها إدوارد سنودن عام 2013م، عندما ترك عمله فجأة كمتعاقد مع وكالة الأمن الأميركي، لاجئاً إلى روسيا. علّق سنودن بعد الحدث الأخير "إن اعتبار فيسبوك شركة تقدّم خدمة التواصل الاجتماعي هو خدعة بحجم تغيير إسم وزارة الحرب في أميركا إلى وزارة الدفاع". أنكرت فيسبوك تقديمها بيانات لأية جهة حكومية بما فيها الحكومة الأميركية، إلا أن سنودن شرح في وثائقه الوسائل التي يمكن لوكالة الأمن القومي الأميركي الاعتماد عليها للحصول على البيانات، ومنها استخدام البنية التحتية للأنترنت التي تؤمّنها الدولة وشركات الاتصالات لجلب المعلومات المُتبادَلة في فيسبوك وغيرها.
الغرق في البيانات مستمر، وسيتزايد، والتنقيب فيها سيتزايد أيضاً. ملاحظتان حسّاستان غابتا عن الأذهان في خضمّ فضيحة فيسبوك؛ الأولى أن الخصوصية – مع أهميتها – ليست القصة الرئيسة، وإنما التنبوءات والدراسات المستقبلية والإحصاءات، والثانية إننا ما زلنا نحاكم فيسبوك كشركة تقدّم خدمات التواصل الاجتماعي، وننسى أن جميع المراسلات تمر عبر البينة التحتية الأميركية، التي تراقبها NSA؛ الأمر الذي يجعل إنكار فيسبوك تقديم أية بيانات في المستقبل على درجة أقل من الأهمية، ويجعل منها - في كل الأحوال- جزءاً من منظومة "الأخ الأكبر".