مبادئ الحرب في الإسلام
الحرب في الإسلام ليست حرباً همجية ولا عدواناً سافراً ولا قتالاً مُجرّداً من كل خلق وفضيلة، فالإسلام كدين سماوي لا يُحب سفك الدماء ولا يدعو إلى الحرب من أجل الحرب ولا يهدف إلى إهلاك الخَلق ولا إلى إبادة البشرية، بل هو رسالة الرحمة والرأفة ورسالة إنقاذ البشرية وتخليصها من الظلم والبغي والعدوان ورسالة نشر السِلم والأمن والأمان، والحرب فيه ضرورة واستثناء.
هذا وقد ذهبت الشريعة الإسلامية إلى أكثر من مُجرّد النهي عن الحروب ودخولها، ففي البداية عملت على الأخذ بكافة السُبل لمنع وقوع الحرب لحَقن دماء الجميع من المدنيين والمُحاربين (من الجانبين)، فأوصت بقبول كل الشروط التي يعرضها المُخالفون ما دامت تؤدّي إلى صون الحُرمات وحُسن العلاقات بين الجانبين، ومن أمثلة هذا المسلك تلك المُعاهدة التي وقّعها الرسول صلّى الله عليه وسلّم بنفسه مع قُريش في عام الحديبية، وأوجبت على المسلمين تنفيذها بدقّة وأمانة حتى مع الوثنيين، حيث قال الله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة 4).
كما أن دخول الحرب ضرورة جعل الشارِع (المُشرّع) يضع لها من القيود والضوابط والآداب ما لم تعرفه حرب في التاريخ، بحيث ليس من غرض له في القتال إلا على قَدر ما يُحقّق الهدف وهو إزاحة العدو، فلا يقتل إلا مَن انتصب لذلك وقام له، أما مَن لم ينتصب لقتال المسلمين ولم يتصوّر منه المُحاربة فلا يتعرّض له بسوء ولا يُقتَل إلا أن تكون له مُشاركة في القتال بشكلٍ من الأشكال، ولقد أكّد هذا المعنى الخليفة عمر بن الخطاب بعزله لخالد بن الوليد عندما رأى كثرة قتلاه من جيش الأعداء، وولّى مكانه أبا عُبيدة بن الجرّاح قائلاً: (إن سيف خالد لرهقا).
هكذا وقد نهى الإسلام عن مُقاتلة مَن لا يُقاتل وكذلك عدم مُقاتلة مَن ألقى السلاح، فالشريعة الإسلامية قد فرّقت بوضوح بين المُقاتلين وغير المُقاتلين، بل إنها لم تُبِح توجيه أعمال القتال لكل المُعتدين وإنما قيّدته بعدم توجيه أعماله إلا إلى المُحاربين منهم فقط ، كما حرّمت قتل الأطفال والنساء والشيوخ الذين لا يساهمون في أعمال القتال، فلا توجّه أعمال القتال إلا للمُقاتل القادر على حمل السلاح أو الذين تم إعدادهم لهذا الغرَض فقط، أما الأشخاص المدنيين الذين لم يتم إعدادهم للقتال أو لم تؤهلّهم طبيعتهم لذلك الغرَض لضعفهم أو لم يكن من المُدبّرين أو المُخطّطين فإنهم يكونون بمنأى عن القتال، كما نجد أيضاً أن الإسلام قد أوجب الحماية على كل المُستضعَفين من النساء والوِلدان والشيوخ والمسالمين، بل وأوجب عدم التفرِقة بين الأطفال وأمّهاتهم وحمايتهم من القتل والفتك والتشريد، وذلك اتّباعا لسُنّة رسول الله محمّد صلّى الله عليه وسلّم والمُتمثّلة في قاعدة مؤدّاها (ألا يُقاتَل غير المُقاتِل).
ولكن عندما تُفرض الحرب على الدولة الإسلامية، فقد وضِعت ضوابط وقواعد عملية عدّة يجب اتّباعها لتُخفّف من أهوالها، وتحدّد بإنصاف ما يقتضيه الموقف الدفاعي البحت، فنهى عن قتل المرآة في بيتها والراهب في معبده والفلاّح في مزرعته، وبالجُملة فقد حصر الإسلام الحرب في ميدان الحرب ولا يتعدّاه، وذلك حماية لجميع المدنيين المُسالمين، حيث قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة 190).
كما حثّ الإسلام أتباعه على عدم المساس بأماكن العبادة، وهذا واضح من موقف أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز من (كنيسة يوحنا) في دمشق حينما هدم الوليد بن عبد الملك جزءاً كبيراً من الكنيسة ليُقيم عليها المسجد الأموي المُشيّد، فلما ولّيَ عمر بن عبد العزيز الخلافة شكا إليه نصارى دمشق ما حدث لكنيستهم، فأصدر أمره بهدم هذا الجزء من المسجد وإعادة الأرض التي أقيم عليها إلى الكنيسة.
هذا ونهى الإسلام عن الاعتداء على الأعيان المدنية وتخريبها، ونهى عن قطع الأشجار المُثمرة والنخل وعدم تخريب كل عامر وعدم عقر الشياة والأبقار وعدم هدم الصوامع والبيَع، فالإسلام قد أنكر حروب التخريب والتدمير وحروب الفتح والتوسّع والاستعلاء، حيث قال الله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص 83) كما حرّم الإسلام حروب التشفّي والانتقام للإساءات الأدبية، حيث قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة 2).
وأخيراً نقول أن مبادئ الشريعة الإسلامية أرسَت للأخوّة الإنسانية في هذا العالم، وذلك بأن لا يتجاوز المسلمون أثناء النِزاعات المُسلّحة الضرورة العسكرية وأن يعاملوا خصومهم أياً كانوا معاملة إنسانية وأن يوفّروا لهم الحماية اللازمة لحماية المدنيين وأعيانهم المدنية.