صورة فلسطين في الدراما العربية.. مسؤولية مَن؟
عاصفة "الربيع العربي" حملت معها دلالة مهمة لم يقرأها الكثيرون بشكلٍ صحيح، وهي غياب فلسطين عن المشهد العربي الذي بات يُطالِب بالعدالة والحرية والكرامة.
حظيت القضية الفلسطينية على الدوام بحضورٍ طاغٍ في كل الأعمال الدرامية الرمضانية، سواء التاريخية منها أو السياسية، أو تلك التي تتناول الأوضاع الاجتماعية في حقبةٍ تاريخيةٍ مُعيَّنةٍ في الدول العربية.
ولعلّ الجميع يذكر أعمالاً على شاكِلة "التغريبة الفلسطينية"، و"باب الحارة"، و"ليالي الحلمية"، و"رأفت الهجّان". كانت هذه الأعمال تتناول بشكلٍ رئيسي أو جزئي نضال الشعب الفلسطيني ومُعاناته الناجمة عن احتلال أراضيه وطرده من ناحية، وإبراز أوجه مختلفة للصراع العربي الإسرائيلي من ناحيةٍ أخرى.
ارتبطت تلك الأعمال بشكلٍ أو بآخر بتعزيز الرواية الفلسطينية أمام الرواية الصهيونية على مستوى المُشاهِد العربي. ولطالما اتّسمت بربط الاستيلاء على فلسطين وسرقتها كإحدى الأدوات التي وظَّفها الاستعمار الكولونيالي الغربي من أجل تمزيق الأمّة العربية والحؤول دون نهضتها ووحدتها، وأحيلت الأزمات كافة التي يُعاني العالم العربي منها إلى هذا الجسم الغريب، باعتباره المُهدِّد الرئيسي لكل الأحلام العربية في النهضة والتقدّم.
استُخْدِمَت القضية الفلسطينية على مدار عقودٍ من قِبَل الأنظمة العربية المختلفة لتعزيز قبضة هذا النظام أو ذاك على شعبه. اشتعلت الشوارع العربية من تونس حتى البحرين بأصوات المُطالبين بالتغيير، لينهار معها النظام العربي الرسمي.
عاصفة الاحتجاجات العربية، أو ما عُرِفَ بـ"الربيع العربي"، لم تتوقّف عند حدود تغيير النظام فقط، بل حملت معه دلالة مهمة لم يقرأها الكثيرون بشكلٍ صحيح، وهي غياب فلسطين عن المشهد العربي الذي بات يُطالِب بالعدالة والحرية والكرامة.
تطوَّرت لاحقاً الأحداث، وانقسم النظام العربي إلى محاور مُتناحِرة، حاول كل طرف منها إعادة توظيف القضية الفلسطينية وفق رؤيته وأجندته الخاصة، محاولاً الاستفادة من واقع الانقسام الداخلي الفلسطيني، ومن قبلها الولوج الفلسطيني في عملية سلامٍ فاشلة برَّرت للبعض ضرورة الذهاب إلى التطبيع مع "إسرائيل" وقبولها، وإقامة علاقات طبيعية معها، ما دام الفلسطينيون أنفسهم قد أقرّوا لـ"إسرائيل" بذلك.
تناول دُعاة التطبيع منظور الواقعية السياسية كمُبرِّر للتعامُل مع الاحتلال الإسرائيلي باعتباره أمراً واقعاً لا يمكن تغاضيه، ولا مفرّ من ضرورة الاستفادة من تقدّمه العِلمي والتكنولوجي في المجالات كافة.
الهَرْوَلة العربية باتجاه "إسرائيل" تحتاج من قادة المُطبّعين طَمْس الصورة الذهنية السابقة التي تمّ رَسْمها على مدار عقود للمُستَعْمِر الإسرائيلي المُحتل، فكان لا بدّ من قلب الصورة وإحداث تبدّل في الرؤية بزاويةٍ مُستقيمة، يتمّ فيها نقل الصورة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لتخرج بداية بعض الأقلام والتصريحات لكتَّابٍ عربٍ، مُسْتَخْدِمة عقيدة الصدمة في توجيه اللوم إلى الفلسطيني عما يلحق ببلاده من خراب، ومُستفيدة بشكلٍ كبيرٍ من بروز ظاهرة التنظيمات الإسلامية المُتطرِّفة، التي تجاوزت في عضويّتها مفهوم القطرية.
وأصبح التركيز على صورة الفلسطيني الإرهابي الذي تنكَّر لقضيّته، وخرج ليسْفِك دماء إخوانه في العروبة والإسلام، ويُهدِّد استقرار الدول العربية، وإعادة تصوير الفلسطيني في ثوب الناكِر للجميل، عبر توظيف بروباغندا إعلامية عملت على خَلْقِ حالٍ من الاحتقان بين المواطن العربي والفلسطيني، وكأنهما خصمان مُتقابلان.
استخدمت الدراما الرمضانية لإعادة تشكيل صورة المُحتل، بما يُمهّد للقبول الشعبي لما قد تحمله الأيام والأشهر القادمة من تحوّلاتٍ في العلاقات العربية الإسرائيلية للعديد من الأنظمة، وبالتحديد دول الخليج العربي، التي كانت على الدوام من أكبر الداعمين للقضية الفلسطينية.
انحصرت الصورة الجديدة التي تحاول الدراما العربية إعادة تشكليها بين نقطتين؛ الأولى صورة الفلسطيني الناكِر للجميل، الذي ينحاز إلى دولٍ على حساب دولٍ أخرى، رغم ما تقدّمه تلك الدول من دعمٍ مالي للقضية الفلسطينية.
أما الثانية، فتمثّلت في إبراز صورة مُغايرة للإسرائيلي المُحتل في الخيال العربي، وهي الصّورة ذاتها التي تحاول الرواية الصهيونية تعزيزها والتأكيد عليها، كما جاءت في تفاصيل صفقة القرن الأميركية بتعريفها لماهيّة اللاجئ، وإعادة تعريف اللاجئ في الصراع العربي الإسرائيلي بحسب المنظور الصهيوني، وهو ذلك اليهودي الهارِب من الجحيم العربي عشيّة النكبة وما تلاها، تاركاً وراءه أمواله وبيته، وليس الفلسطيني الذي اقْتُلِع وشُرِّد في شتّى أصقاع الأرض.
هذه الصورة ليست قطعاً هي الصورة الكلية للأعمال الدرامية العربية كافة، ولا يجب أن نضع الكل في سلّةٍ واحدة، ولكنها صورة باتت واضِحة وتتطلَّب من كل المؤمنين والمُدافعين عن القضية الفلسطينية وعدالتها إبداء الاهتمام بها ومحاورتها.
ومن أجل ذلك، لا بدّ من تقديم قراءة نقدية للسلوك الفلسطيني أولاً قبل العربي، وأيضاً مُساءلة السفارات والبعثات الفلسطينية التي لم تبذل الجهود المطلوبة منها لتعزيز الرواية الفلسطينية والمحافظة على الزخم الشعبي العربي الداعِم للقضية الفلسطينية.
لقد أثّر الانقسام الفلسطيني الداخلي وتبعاته في صورة النضال الفلسطيني، كذلك فعلت وصلات من الردح السياسي والتخوين على الفضائيات العربية، واتباع سياسة المحاور من قِبَل الأحزاب الفلسطينية على اختلاف ألوانها، وهي السياسة التي أضرّت بشكلٍ كبيرٍ بالنأي بالفلسطيني عن المشهد العربي المُتردّي والمُنقَسِم، وباتت بحاجٍة جادّةٍ إلى مُراجعة نقدية لتلك السياسة الضارَّة بعدالة القضية الفلسطينية.
ينبغي للفلسطينيين وضع استراتيجية إعلامية فلسطينية-عربية قادِرة على مُخاطبة الجميع، تُفنِّد الرواية التي تسعى إلى تحريف الصراع، ومحو الهوية الفلسطينية، واغتيال التاريخ والحاضر النضالي الفلسطيني لخدمة المشروع الصهيوني في فلسطين، ولكن أياً كانت الظروف، وأياً كانت المُبرّرات، ستبقى القضية الفلسطينية على الدوام قبلة الأحرار والشُرفاء في هذا العالم، سواء كانوا عرباً أو غير ذلك. أما بالنسبة إلى المُطبّعين، فمن الطبيعي أن يكونوا في الموقف الآخر.