صفعات مُتتالية.. انحسار النفوذ التركي في سوريا
سعي روسيا إلى إحداث خرقٍ للقوى الفاعِلة من شأنه تغيير مُعادلات التوازُن والاصطفافات بما ينسجم مع التطوّرات الميدانية التي تصبّ في مصلحة سوريا وبما لا يتوافق مع المسعى التركي.
بات من المُسلَّم به أن الإنجازات العسكرية للجيش السوري بدعمٍ من حلفائه وأصدقائه ستُرخي بظلالها على كل المسارات المُتعلّقة بالملف السوري، وبخاصةٍ بعد القفزات النوعية والسريعة في منطقة خَفْض التصعيد الرابعة والأخيرة وإعلان تحرير مدينة حلب بالكامل وتأمينها بعد تحرير أريافها الشمالية الغربية والجنوبية وصولاً إلى ريف إدلب الشرقي واستعادة الطريق الدولي (أم5)، وتأثير ذلك على مصالح القوى المُتصارِعة وليس فقط على سلوكيّاتها التي قد تدفعها إلى اللجوء لخياراتٍ قد تشكّل في بعضها القليل، تهوّراً لا تُحمَد عُقباه، وفي بعضها الآخر يُشكّل استفزازاً وأداة ميدانية للضغط في وَقْف الزحف السوري والعودة إلى الاتفاقات السياسية الهشَّة، وبخاصةٍ من قِبَل النظام التركي الذي تلقّى صفعات مُتتالية في الآونة الأخيرة تمثَّلت بـ:
1.الحسم السريع والنوعي للجيش العربي السوري ميدانياً وبفتراتٍ زمنيةٍ قياسيةٍ، أُسقطت من خلالها كامل الأوهام والأجندات التركية مع سقوط التحصينات للمجموعات الإرهابية وتطبيق بنود سوتشي عسكرياً وبما لا يرغبه ولا يتناسب مع مصالح النظام التركي، لذلك سارع الأخير إلى اللجوء نحو إقامة نقاط مُراقبة جديدة كمرحلةٍ أولى لمنع التقدّم السوري ومن ثم أقدم على تزويد المُسلَّحين بأسلحةٍ نوعيةٍ ومُتقدِّمةٍ من صواريخ حرارية وراجِمات الصواريخ وصولاً إلى مُشاركة نقاط مُراقبته وقوَّاتها بنقل المُسلَّحين وبخاصةٍ الأجانب من "الحزب التركستاني" و"أجناد القوقاز" و"جبهة النصرة" إلى جبهات القتال ومنحها غطاء مدفعياً في أكثر من جبهةٍ وتوقيت.
2. الموقف الروسي الصارِم والحازِم بالقضاء على التنظيمات الإرهابية في منطقة خَفْض التصعيد الرابعة، ودعم أحقيَّة الدولة السورية في استعادة سيطرتها على أراضيها، وهذا برز من خلال مروحة من المؤشّرات:
أولاً: رفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مطالب تركيا لعقد اجتماع قمَّة بين الجانبين للوصول إلى اتفاقٍ سياسي أو إحياء الاتفاقات السابقة، وهذا يُعبِّر عن انزعاج قيادة الكرملين من السلوك التركي بعد التصريحات النارية التي قذفها رجب إردوغان نحو روسيا أثناء زيارته إلى أوكرانيا واستخدامه عبارة "المجد لأوكرانيا"، بما تحمله من معانٍ استفزازيةٍ للكثيرين في روسيا على المستويين الرسمي والشعبي، وإعلان أن بلاده لم ولن تعترف بما وصفه بـ«ضمّ» روسيا لشبه جزيرة القرم.
ثانياً: تأكيد وزير الخارجية الروسي إلى جانب عددٍ من مسؤولي الخارجية والدفاع الروسيّتين وبياناتهما بضرورة اقتلاع الإرهاب من الأراضي السورية، وهذا ما عبَّر عنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أثناء مؤتمر ميونخ بالقول: "إن استهداف التنظيمات الإرهابية لم يتعارض مع اتفاقيّ مناطق خَفْض التصعيد وسوتشي"، فضلاً عن توجيه الاتهام إلى النظام التركي من قِبَل الإعلام الروسي المُقرَّب من دوائر صُنع القرار بتزويد الإرهابيين بأسلحةٍ نوعيةٍ وبصورةٍ خاصةٍ منظومة الدفاع الجوي الأميركية المحمولة والتي تستخدمها السفن التركية، ونشر صوَر ومقاطع توثيقية عن ارتداء المجاميع المُسلَّحة للزيّ العسكري التركي.
ثالثاً: خيبة الأمل الجديدة التي تلقَّاها النظام التركي من شريكيه الأميركي والأطلسي، اللذين عبّرا عن دعمهما للموقف التركي ومصالحه في إدلب بالتصريحات فقط، واستبعدا أيّ تدخّل عسكري إلى جانبه في أية حربٍ أو صِراعٍ مع الجيش السوري ومن خلفه روسيا وإيران وفصائل المقاومة، وهذا ما عبَّر عنه صراحةً مُستشار الأمن القومي الأميركي روبرت أوبراين، الذي استبعد في ندوةٍ له في واشنطن حول إدلب أيّ احتمالٍ للتدخّل العسكري لبلاده، وخيبة الأمل هذه دفعت النظام التركي إلى اعتبار تصريح المبعوث الأميركي حول سوريا جيمس جيفري بأنه "من دون نفع وفائدة" عندما وصف قتلى الجنود الأتراك في سوريا بـ"الشهداء"، وهي، أي خيبة الأمل، دفعت وزير دفاع أنقرة خلوصي آكار إلى التعهّد بضرب الإرهابيين المُتطرّفين في إدلب "بيدٍ من حديد" في حال خَرْقهم لاتفاق سوتشي، في رسالةٍ مزدوجةٍ أولها تعني خيبة الأمل من عدم الحصول على الدعم المطلوب الحسّي الذي طالب به آكار حلف الأطلسي لتقديمه أثناء اجتماع وزراء دفاع الحلف، وثانيهما لموسكو في محاولة لتقديم تعهّدٍ جديدٍ بتنفيذ بنود سوتشي شريطة قيام موسكو بالضغط على الجيش السوري لوَقْف عملياته.
المؤشّر الرابع: سعي روسيا إلى إحداث خرقٍ على أكثر من موقفٍ للقوى الفاعِلة من شأنه تغيير مُعادلات التوازُن والاصطفافات بما ينسجم مع التطوّرات الميدانية التي تصبّ في مصلحة سوريا وبما لا يتوافق مع المسعى التركي، أولها يتمثّل في التنسيق الروسي السعودي الإماراتي لأن تتولَّى الرياض إعادة هيكلية ما يُسمَّى "وفد الهيئة العُليا للتفاوض" من خلال مؤتمر القاهرة في بداية آذار/مارس المقبل، وأن تُمنَح الإمارات فرصة استقدام القوى الكردية في الشمال الشرقي من سوريا إلى المؤتمر وأن تنخرط ضمن الهيكلية الجديدة، وهو الخَرْق الثاني المؤثّر إيجاباً في احتمال عودة المناخات الفعَّالة لاستكمال جلسات لجنة مُناقشة الدستور وبتأثيرٍ أقل من التركي، إنْ لم نبالغ في القول بسحب كامل التأثير إن استطاعت موسكو نقل التأثير والتحكّم بالمُعارضة من أنقرة باتجاه الرياض، مُستغلِّة الصِراع الإيديولوجي بين تركيا والسعودية لتفعيل مساعيها لإعادة الأجواء والعلاقات بين سوريا والمملكة كمُقدِّمةٍ لعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وما يدعم هذا المؤشّر حدثان مهمّان:
الأول مُشاركة بعض القوى من (قسد) في القتال إلى جانب الجيش السوري في ريف حلب، والثاني: التخوّف الكردي من توسّع عدوان تركيا في الشمال الشرقي من سوريا للانتقام من روسيا وسوريا، وهو ما دفع (قسد) إلى عَقْدِ اجتماعٍ طارئ وبطلبٍ منها مع شخصيات مثّلت الجيش العربي السوري في مطار الطبقة العسكري منذ أيام، بهدف دعوة الجيش رسمياً إلى زيادة وجوده العسكري وتدعيم الخطوط القتالية في مناطق شمال بلدة عين عيسى، وذلك بعد استقدام قوات الاحتلال التركي لتعزيزاتٍ عسكريةٍ إلى كامل خطوط التماس في المنطقة.