لماذا تأخّر تحرير معرّة النعمان؟
ما بعد تحرير معرّة النعمان يختلف كثيراً عمّا قبله، فالمدينة تشكّل عقدة أساسيَّة على الطريق الذي يصل بين دمشق وحلب، إضافةً إلى كونها مفتاح الوصول إلى سراقب التي تشكّل عقدة الربط بين الطريق الدولي M5 والطريق M4 الرابط بين اللاذقية وحلب.
يأتي تحرير مدينة معرّة النعمان متزامناً مع الكثير من التعقيدات السياسية على مستوى الإقليم والعالم، وعلى رأسها التمادي الأميركي والتحدي الوقح لأكثر من مليار مسلم، بينهم 300 مليون عربي، عبر الإعلان عن "صفقة القرن" التي ستبقى حبراً على ورق.
وعلى عجالة، لا بدّ من التأكيد أنَّ ما أعلنه ترامب سيقود إلى مزيدٍ من العنف وعدم الاستقرار في المنطقة والعالم، وهو ما يطرح تحدّيات كبيرة ترتبط بمصير المنطقة، فمن المعروف أنَّ من يسيطر على مثلث حلب – الموصل – الرها (أورفا التركية) يمكنه التحكّم بمربع بلاد الشام والرافدين والأناضول.
فحلب هي بمثابة الإطلالة الطبيعية على برّ الشام، وتشكّل الموصل المطلّ الطبيعي نحو العراق، وصولاً حتى مثلث الأردن– العراق– السعودية، إلى طريق الحج واليمن، بينما تشكّل الرها نقطة التحكّم بالأناضول. ومن هنا، علينا الولوج إلى هذا الشَّبق التركيّ ومقاربته بدقّة لفهم طبيعة المطامع التركية بخطِّ حلب– الموصل، وما تشكّله هذه المطامع من ربط مع المشروع الأميركي الأمّ المرتبط باستعادة السيطرة على المنطقة، بعد أن بدأت تتفلَّت من النفوذ الأميركي بسبب المقاومة المتصاعدة في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين.
وإن كان الموضوع المرتبط بمثلَّث حلب– الموصل– الرها يحتاج إلى مجلَّدات لشرحه وتشريحه وتبيان ماهيته وأهدافه، فإنَّ معركة تحرير الشمال السوري برمّته هي مدخل أساسي ومهم لاستكمال نسف مشاريع الأطماع والهيمنة الأميركية والتركية.
وبالعودة إلى معركة تحرير خان شيخون، من المفيد القول إنّها جزء من معركة مفتوحة تشمل مناطق في ريف إدلب الجنوبي الشرقي وأرياف حلب الغربية والجنوبية الغربية والشمالية، لكنَّ هذا الجزء من المعركة هو بمثابة استكمال لمعركة تحرير الأحياء الشرقية لمدينة حلب في نهاية العام 2016، الذي أحدث متغيرات جيوسياسية كبيرة في سوريا والمنطقة، حيث وجدت تركيا نفسها مضطرة إلى التفاوض بعد خسارتها نصف مدينة حلب من خلال هزيمة الإرهابيين الَّذين كانت تديرهم.
بعد ذهاب تركيا إلى أستانة– 1، بدأ العدّ التنازليّ لاستعادة الجغرافيا التي كان تنظيم "داعش" الإرهابي يسيطر عليها، بسبب تفرّغ الجيش العربي السوري وحلفائه لمعركة شرق حلب وشمال شرقها وتدمر واتجاهات البادية المختلفة، وصولاً إلى خط الحدود السورية– العراقية، الذي يمكن اعتبار السيطرة عليه مفتاح تغيُّر ميزان القوى والدخول في مرحلة التحولات الكبرى التي أسّست لتحرير الموصل ومناطق مختلفة في العراق.
وفي الوقت الَّذي كان إردوغان يعتقد أنَّ الروس والدولة السورية يمنحانه الوقت وهوامش المناورة المستمرة حتى اللحظة، كانت الخطَّة السورية، بالتفاهم مع الحلفاء، هي استعادة السيطرة على قاعدتي مثلث حلب– الموصل– الرها التي يتواجد إردوغان في رأس مثلثها في الأساس، وكان يطمح لأن يُحدث عملية الربط بين حلب والموصل بالتفاهم مع الأميركيين عبر أدوات الإرهاب "داعش" و"النصرة" وعشرات الأدوات الأخرى.
وخلال اللقاءات المتتابعة لأستانة على مدى ثلاث سنوات، استعادت الدّولة السّورية الجغرافيا الواسعة التي مزّقها "داعش"، وانطلقت عملية تحويلها من جغرافيا قلقة وممزّقة إلى جغرافيا متماسكة ومستقرّة، وبدأت الدولة السورية بالانتقال إلى مرحلة وصل الجغرافيا من الجنوب إلى الشمال، وعملت مع الحلفاء على تثبيت خطِّ الربط بين سوريا والعراق الَّذي أحدث منذ ربطه أعلى مستويات القلق والذعر لدى الأميركيين وكيان العدو معاً، إضافةً إلى تركيا، التي بدأت باستكمال ما تسمّيه المنطقة الآمنة التي لم تكتمل ولن تكتمل، وتبدو كخطٍّ مليء بالتعرجات والأشلاء، سواء في الشمال الغربي لسوريا أو في الشمال الشرقي.
في الشمال الغربي، يمكن اعتبار محافظة إدلب وأجزاء من سهل الغاب، مع جزء بسيط من ريف اللاذقية الشمالي الشرقي، بمثابة الجذر العميق الممتدّ في الجغرافيا السورية، والذي بدأت عملية اقتلاعه، ليتمّ حصر التواجد التركي والجماعات الإرهابية في شريط ضيّق مقطّع الأوصال سيكون خاضعاً بالتأكيد لمفاوضات قادمة أساسها اتفاقية أضنة الموقّعة بين سوريا وتركيا، لأننا إذا ما ألقينا نظرة على شريط التواجد التركي، لوجدناه مقطّع الأوصال وغير مترابط، وهو ما ينطبق على الشريط الذي كان يطمح الانفصاليون الكرد لإنشائه.
كلّ هذا على المستوى الاستراتيجي الذي استطاعت الدولة السورية مع حلفائها تحقيقه، ويتم استكماله عبر السيطرة النهائية على الطريق الدولي M5 الَّذي يسيطر عليه الجيش العربي السوري من الحدود السورية– الأردنية جنوباً، وحتى شمال معرّة النعمان عند إنهاء كتابة هذا المقال، مع الإشارة إلى أنّ السيطرة التي تُعتبر حيوية لسوريا، تكتمل مع تحرير الوصلة المتبقية بين شمال معرّة النعمان وحلب، وتمرّ بسراقب التي يتقاطع فيها الطريقان M5 وM4.
بالنّسبة إلى الطريق M4، فالجيش العربي السوريّ يسيطر على أغلبه، من الحسكة شرقاً، وحتى حلب غرباً، ومن عين الحور حتى اللاذقية، باستثناء الوصلة الّتي تمرّ بجسر الشغور، وتصل حتى سراقب، مع الإشارة إلى أنّ الوصلة نفسها تنطبق على طريق N4 الواصل بين اللاذقية والبوكمال.
انطلاقاً ممّا تقدّم، يمكن اعتبار المعارك اللاحقة معارك استكمال السيطرة على طرق الربط الأساسيّة في سوريا، والمرتبطة بالعراق والأردن وإيران، وهو ما سيحرم تركيا، رغم سيطرتها على أجزاء من الجغرافيا السورية، من قدرة التأثير في الميدان، وتالياً في مجمل الملفات المطروحة، فما لم يستطع إردوغان تحقيقه في الميدان سيجعل موقفه ضعيفاً في أيّ مفاوضات، فالدولة السورية، ومعها العراق، يسيطران على قاعدة الارتكاز الكبرى من الموصل إلى حلب، وعلى شبكة الطرقات الحيوية التي ستُجبر إردوغان تدريجياً على الاستدارة والانخراط في عملية التشبيك والخروج من حالة الاشتباك التي كلّفت سوريا والعراق كثيراً، لكنها لم تمنح تركيا أيّ مكاسب جيوسياسية.
وأخيراً، إنَّ العمليات ستستمرّ حتى السيطرة على الطريقين (M5 وM4)، باستثناء الوصلة بين شمال حلب وصولاً حتى أعزاز، والتي ترتبط بتركيا أكثر في هذه المرحلة، لناحية الفائدة الاقتصادية التي كان الطريق يؤديها كخطّ ربط للتجارة بين تركيا وسوريا، وصولاً حتى الأردن، وتالياً حتى الخليج.