حدثان فارقان يفسرّان ما يحدث
لهذه الأسباب وغيرها، يحقّ لنا أن نتفاءل بالوعد الجديد لصاحب الوعد الصّادق، وأن نأمل لأوَّل مرة منذ عقود بمنطقتنا حرةً من الهيمنة الاستعماريّة الغربيّة الّتي لم تجلب لنا إلا الخراب والموت.
اعتدتُ أن أنصح المعارف والأصدقاء الراغبين في فَهْم ألغاز السياسة في منطقتنا بالعودة إلى حدثين فارقين ما بعدهما ليس كما قبلهما، يُفسّران كلّ ما حدث ويحدث في إقليمنا منذ نحو أربعة عقود حتى اليوم، ورغم ذلك، يجري التعتيم عليهما وتهميشهما إعلامياً.
الحدث الأول، تفجير مقرّ الحاكم العسكريّ الإسرائيلي في صور جنوبي لبنان في العام 1982، والذي أودى بحياة 100 ضابط وجندي إسرائيلي باعتراف العدوّ، ومن ثَمَ قرار الجيش الإسرائيلي الانسحاب والانكفاء إلى الشريط الحدودي، ما مهَّد لاحقاً لطرده بلا قيد أو شرط من لبنان في العام 2000، وهو سابقة في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي.
والحدث الثاني، تفجير مقرّ قوات "المارينز" في بيروت في العام 1983؛ تلك القوات التي جاءت لمساعدة الإسرائيليين، حيث أودت العملية بحياة 299 جندياً أميركياً وفرنسياً، وما تلا ذلك من فرار "المارينز" من لبنان.
العمليتان السابقتان كانتا استشهاديتين نفَّذتهما مقاومة شعبية لبنانية مدعومة من دولتي إيران وسوريا، وكانتا برهاناً قاطِعاً على انكسار الأداة الأساسية المُستخدَمة لإدامة الهيمنة الاستعمارية على منطقتنا، أي الجيوش الغربية المُتسلّحة بالتفوّق التكنولوجي. وكل ما جرى، منذ هذين الحدثين إلى اليوم كان محاولات دؤوبة للتحايُل على الواقع الجديد باستخدام مختلف الوسائل من مفاوضات ومؤتمرات للسلام كضغوطٍ اقتصاديةٍ وحروبٍ وثوراتٍ ملوّنة.
وكمثال على ذلك، ظلَّ الملفّ الرئيسي على أجندة السياسة الخارجيّة الأميركيّة طوال عقد التسعينات هو محاولة جَذْب سوريا إلى معسكر حلفاء واشنطن، وذلك عبر مفاوضات السلام المكوكية والقمم الرئاسية المتتالية، ما كان سيسمح، لو تمّ، بالإجهاز على المقاومتين اللبنانية والفلسطينية وعزل إيران ومحاصرتها، فيما انتقل الجهد الأميركيّ بعد اليأس من إمكانيّة إخضاع سوريا عبر المفاوضات إلى محاولة كَسْر إرادتها عبر تشديد العقوبات والحصار والحروب الإعلامية طوال العقد الأول من الألفية الجديدة، وانتهى الأمر بحربٍ شرسةٍ بالوكالة استُخدِمت فيها جماعات التكفير الإرهابية منذ تسع سنوات إلى اليوم.
يمكن ربط عمليّة غزو العراق في العام 2003 أيضاً بتداعيات الحدثين السابقين، حيث كان مُقدّراً لتلك الحرب أن تؤدّي لاحقاً إلى سقوط سوريا وإيران وفق نظرية حجارة الدومينو التي وضعها الاستراتيجي الأميركي برنارد لويس. أما الاتفاق النووي الأخير مع طهران، فقد اتَّضح أنه لم يكن سوى محاولة جديدة فاشلة لترويض إيران، أملاً بتمديد عُمر الهيمنة الغربية على منطقتنا.
وجاء استذكار السيِّد حسن نصر الله لحادثة طرد الأميركيين من لبنان في العام 1983 خلال خطابه المفصلي الذي أعلن فيه عن قرار كبير اتخذه محور المقاومة، بجعل واقعة اغتيال الفريق قاسم سليماني مناسبةً لإطلاق حرب تحرير تخرج القوات الأميركية من منطقتنا، ليؤكّد صحّة السياق السابق الّذي افترضتُه لتفسير مسارات السياسة والحرب في منطقتنا، لكن هل يبدو قرار وضع ملفّ الوجود العسكري الأميركي في المنطقة العربية على نارٍ حاميةٍ في هذه اللحظة التاريخية قراراً حكيماً؟ وما هي فُرَص نجاح حرب التحرير التي أعلنها أمين عام حزب الله؟ وما هي إمكانيات الردّ الأميركي؟
في الواقع، لقد اختصر الانتقال الأخير للسياسة الأميركية في منطقتنا إلى مرحلة النَهب العلنيّ والابتزاز عبر استخدام سياسة الحصار والتجويع، الكثير من الجهد الذي كانت جبهة المقاومة ستبذله لتبرير إطلاق حرب تحرير شعبية ضد الوجود العسكري الأميركي، فالخطاب الوقِح الذي يطلقه دونالد ترامب، عندما يعلن عن رغبته في السيطرة على نفط العراق (زاعماً أن ليس هناك عراق ولا عراقيون)، وإشهار نيّته السيطرة على النفط السوري، وتبشير وزير خارجيته مايك بومبيو، بانهيار الاقتصاد اللبناني، كلّ ذلك لم يترك أمام شعوبنا كثيراً من الخيارات بين انتظار الموت جوعاً والمقاومة.
من ناحيةٍ أخرى، لا يعبّر تخلّي السياسة الأميركية عن عدّة النّصب التقليدية التي كانت تغلّف أهدافها الاستعمارية عن زيادة في منسوب القوّة الأميركية، كما يعتقد البعض، بل جاءت تلك الوقاحة في الحقيقة كنتيجةٍ لفشل محاولة إعادة ترتيب المنطقة بما يتناسب مع المصالح الأميركية عبر حروب جورج بوش الإبن، حيناً، ومن ثَم عبر الثورات الملوّنة التي دعمتها إدارة أوباما حيناً آخر.
لقد خسرت الولايات المتحدة الأميركية في حروب الشرق الأوسط 7 تريليون دولار، كما صرّح ترامب، وأصبح اقتصادها على شفا الإفلاس (جميع وسائل الإعلام الأميركية تتحدَّث عن أزمة 2020 الاقتصاديّة التي يتوقّع أن تكون عشرة أضعاف حجم أزمة العام 2008)، وبالتالي صار خطاب ترامب الذي يبشّر بالسيطرة على النفط وبنهب الثروات حاجة داخلية أميركية لتبرير الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط أمام الرأي العام داخل الولايات المتحدة، فيما اختفى الحديث القديم عن نشر القِيَم الديمقراطية من الخطاب الأميركي. لقد تخلّى الوحش أخيراً عن مكياجه ليظهر على حقيقته.
في الواقع، لم تحقّق القوّة الأميركية خلال العقود الأربعة الماضية منذ عمليّة طرد المارينز في العام 1983 تقدّماً إلا في ميدان واحد هو ميدان السيطرة الثقافية والفكرية، من خلال الهيمنة على معظم وسائل الإعلام التقليديَّة وما أضيف إليها من وسائل التواصُل الاجتماعي، وهو الميدان الَذي يتمّ عبره التحكّم بصناعة الأفكار وباتجاهات الرأي العام.
هذه السيطرة، مكّنت واشنطن ووكلاءها الإقليميين من التحكّم بعقول طيف واسع من الشباب ودفعهم إلى إشعال حروب وصراعات جانبية وثانوية بعيداً عن التناقض الرئيس مع منظومة النَهب الدوليّة، لكنَّ الأحداث أثبتت أنَّ لهذا التحكّم والتلاعب سقفه وحدوده التي لا يمكن تجاوزها.
في المقابل، فقدت الولايات المتحدة قُدرتها على شنّ الحروب المباشرة، وذلك بعد الاستنزاف المؤلِم الذي تعرَّضت له قواتها في العراق على يد المقاومة المدعومة من سوريا وإيران. ولا يزال تحذير وزير الدفاع الأميركي خلال ولاية جورج بوش الإبن الثانية، روبرت غيتس، من "أنّ أيّ رئيس أميركيّ يفكّر مرّة أخرى في غزو دولة في الشرق الأوسط، يحتاج إلى فحص في قواه العقلية"، يرنّ في أذن صنّاع القرار الأميركيين.
في السياق ذاته، تجلس واشنطن اليوم للتفاوض مع حركة "طالبان" من أجل ترتيب الانسحاب من أفغانستان، غير مُكترِثة بالحكومة التي نصّبتها في كابول، وذلك بعد أطول حرب في التاريخ الأميركي استمرَّت 19 عاماً، وكان لافتاً هنا نعي الحركة الفريق سليماني.
بموازاة ذلك، تضاعفت القُدرات العسكرية لأعداء واشنطن في الشرق الأوسط. وإلى جانب الاستشهاديين، صار محور المقاومة يمتلك قدرات صاروخية نقطوية دقيقة تشهد عليها ضربة آرامكو التي أصابت عَصَب الاقتصاد الرأسمالي العالمي؛ ذلك الهجوم الذي لا زال المُحلّلون العسكريون الغربيون محتارين بشأن الأسلحة التي استخدمت فيه، لتأتي عمليّة قصف قاعدة "عين الأسد" مؤكّدةً القُدرة الإيرانية على إخراج القواعد الأميركية في منطقة غرب آسيا من الخدمة.
يحدث هذا فيما القطب "الروسي - الصيني" الصاعِد يستعدّ لوراثة الدّور الأميركيّ في كامل قارة آسيا سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وذلك عبر منظَّمة شنغهاي، لتتكامل حرب التحرير التي أعلنها أمين عام حزب الله مع معلومات عن قرار روسيّ صينيّ إيرانيّ بجعل آسيا نظيفة من الوجود الأميركيّ خلال عشر سنوات.
لهذا السَّبب وغيره من الأسباب، يحقّ لنا أن نتفاءل بالوعد الجديد لصاحب الوعد الصّادق، وأن نأمل لأوَّل مرة منذ عقود بمنطقتنا حرةً من الهيمنة الاستعماريّة الغربيّة الّتي لم تجلب لنا إلا الخراب والموت.