غزَّةَ.. أمنٌ استخباراتيٌ أربَكَ حسابات الاحتلال
استطاعت المقاومة أن تبلور منظومةُ اتصالٍ خاصة بها للحفاظ على أمنها بعيداً عن الأجهزةِ الأمنية الإسرائيلية.
لم يستعص أمرٌ على المقاومةِ الفلسطينية في قطاع غزَّة إلا وخاضت فيه نِزالاً أربك حسابات الكيان ومنظومته الأمنية. استطاعت المقاومة الفلسطينية بعد أسرها للجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، الحفاظ عليه لمدةٍ زادت عن خمسِ سنواتٍ، تخلّلها تصعيدٌ إسرائيلي عاميّ 2006 و2009.
منظومةُ المقاومة القتالية تطوَّرت بشكلٍ تدريجي عام 2012، حينما قصفت تل أبيب لأول مرةٍ في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، زاد ذلك في معركةِ العصفِ المأكول عام 2014، حينها برزت للمقاومة أوجه جديدة يملأها التطوّر العسكري في المنظومة القتالية، بجانب منظومة الاتصالات الخاصة بها، والتي سعت "إسرائيل" للوصولِ إليها من عدَّة محاور، من دون أن تنجح، آخرها في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2018، خلال محاولة وحدة سييرت متكال الإسرائيلية الخاصة، الدخول إلى غزَّة لزرع منظومة تجسّس واتصال على المقاومة، ولم تنجح، دخلت غزَّة لتحرير الأسرى لدى المقاومة، فخرجت بحثاً عن عناصرها.
منذ أن عملت المقاومة الفلسطينية على إنشاء الأنفاق، وهي تجهِّزُ أسلوباً جديداً في المواجهة المباشرة مع دولةٍ يُصنَّف جيشها من أقوى جيوش العالم، بجانب منظومتها الأمنية الإستخباراتية المُتفوّقة عالمياً، كنظامٍ أميركي مُطبَّق في المنطقة العربية. استراتيجية الأنفاق شكلَّت رادِعاً حقيقياً لتوغّل الجيش الإسرائيلي داخل القطاع خوفاً من عمليات المُباغَتة والأسْر لعناصره، ولم ينجح بذلك إلى حدٍ كبير، خاصةً وأن شاليط اختُطِف عن طريق الأنفاق، وكذلك شاؤول أرون وهدار جولدن وغيرهما، بجانب أن الأنفاق أوصلتهم إلى مواقع حسّاسة داخل السياج الحدودي من ناحية أراضي الضفة المحتلة، واستطاعت المقاومة من خلال ذلك أن تبلور منظومةُ اتصالٍ خاصة بها، وبالتحديد لكتائب القسَّام للحفاظ على أمنها بعيداً عن الأجهزةِ الأمنية الإسرائيلية.
برز ذلك من خلال المحافظة على شاليط طوال الخمس سنوات، ومحاولات "إسرائيل" البائِسة لضرب هذه المنظومة منذ عام 2012 ولم تنجح في ذلك، بل زاد من ذلك بأنها امتلكت استراتيجيةً تتمتّع بها المقاومة في الوصول إلى كلِّ جسمٍ غريب يدخل القطاع.
إن الكشف عن خيوطِ عمليةِ "حدّ السيف"، وهي عملية معُقَّدة غامَرَ بها رئيس أركان جيش الاحتلال كوخافي، تمكَّنت المقاومة من كشفِ كامل عناصرها، بالرغم من الذكاء الإسرائيلي في هذه العملية، والذي تمثَّل في وصول استخبارات الاحتلال إلى عائلة تقطن قطاع غزَّة، واستخدام أفرادها كأسماءٍ وهميةٍ لضبّاطٍ في الوحدة الصهيونية.
استغرق الكشف عن هذه التفاصيل والاشتباك معها من نقطة صفر، أربعين دقيقة، ما أظهر أن حدود القطاع تؤمَّن نهاراً من الأمن الفلسطيني في غزَّة، وفي الليل تكون في حراسةِ جنودِ الله على الأرض، وما من شيء يخرج ويدخل غزَّة إلا ويكون من تحت أنظارهم.
وعن آليةِ عمل الأنفاق، نستطيع القول، إن المقاومة الفلسطينية باتت تمتلك مدينةً كاملةً تحت الأرض، تُدير معاركها مع الاحتلال بشكلٍ أمنيٍ إستراتيجيٍ مُتكامِل، من خلال منظومة الاتصال الخاصة بالمقاومة، وسعت "إسرائيل" جاهدة في معركة استمرّت 52 يوماً، إلى القضاء على منظومة الاتصال، وقطع الاتصال ما بين قيادة المركز والمحيط، إلا أن "إسرائيل" طوال فترة حرب عام 2014، كانت تتفاجأ من آلية الاتصال والتواصُل خاصة في عملية "ناحال عوز" و"أبو مطيبق" واقتحام شواطئ عسقلان وغيرها، ليتبيَّن أن المقاومة باتت تُدير المعركة من خلال منظومة اتصالٍ تتفوَّق على منظومة التجسّس الإسرائيلية وما يدعمها في ذلك.
ومنذ عام 2014 والمواجهة مع الاحتلال في ظلِّ تصعيده المُتواصِل على قطاع غزَّة، هي مواجهة عقولٍ وأدمغة تفوَّقت فيها المقاومة في كثيرٍ من المحطّات، لاسيما وأنها استطاعت أن تُعَرقِل العمليةِ الأمنية وتُهدِّد الكيان في كلّ جولة، وامتلكت مبدأ القصفِ بالقصف، والحرب سِجال، ما منح الغطاء الأمني للقطاع، بأن اختراقه سيُكلَّف الكيان خسارةً سياسيةً كما حال ليبرمان وأولمرت وليفني وموشيه يعلون وغيرهم، وخسارة عسكرية كالتي ألمَّت بكوخافي حينما غامَر بوحدة سييرت متكال عام 2018 كآخر محاولاته لزعزعةِ الأمن في غزَّة، ولم ينجح، وهذا يعطي إشارةً إلى أن المقاومة باتت تكيلُ المواجهةَ بمكيالين، مكيالٌ عسكري مُتمثّل في الجهوزية العسكرية الكاملة، ومكيالٌ أمني من خلال امتلاكها لمنظومة اتصالٍ يصعب على أقوى أجهزة الاستخبارات اختراقها.