"أم هارون".. الاتكاء الفاسد على حكايات يهود الشرق
حتى العام 1952م، كان مجموع اليهود الذين يعيشون في الشرق الأوسط خارج حدود الكيان الناشئ هو 750 ألف يهودي.
قبل نكبة العام 1948م، كان المكوّن اليهودي جزءاً من ديمغرافيا البلاد العربية. هذه حقيقة تاريخية ليست موضع نقاش، وإنما النقاش حول تفاصيل خروجهم، والتوظيفات السياسية لهذا الخروج، وتحديداً الآن.
قبل النكبة، كان يعيش في المغرب 265 ألف يهودي، وفي تونس 105 آلاف، وفي الجزائر 140 ألفاً، وفي ليبيا 38 ألفاً، وفي مصر 75 ألفاً، وفي لبنان 24 ألفاً، وفي سوريا 30 ألفاً، وفي العراق 100 ألف، وفي اليمن 63 ألفاً. اليوم، يقف مجموع اليهود في جميع هذه البلدان على تخوم 12 ألف فرد. فما الذي حدث إذاً؟
ساعدت نهاية الحرب العالمية الثانية، وسقوط النازية، وصعود دعاية المحرقة، الحركة الصهيونية في تعميم خطاب المظلومية الخاص باليهود، وهو خطاب ينطوي في جوهره على محض طبيعة استعمارية.
واحدة من تلك الدعايات كانت موجّهة بشكل مباشر إلى يهود الشرق (أنتم لم تعودوا في مأمن بعد احتلال فلسطين، والآن ليس هناك ملجأ آمن إلا الكيان الناشئ الجديد).
ورغم أن العرب في فلسطين خاضوا حرباً حقيقية ضد الاحتلال منذ اليوم الأول، فإن الدعاية الصهيونية ليهود الشرق لم تعطِ أكلها بشكل فوري، فحتى العام 1952م، كان مجموع اليهود الذين يعيشون في الشرق الأوسط خارج حدود الكيان الناشئ هو 750 ألف يهودي، فكان لا بد من الاستناد إلى خطط مساندة، بالتنسيق مع الاستعمارين البريطاني والفرنسي والحكومات التابعة لهما في الدول العربية.
كانت ثمة حاجة لتحفيز المزيد من ظروف الضغط على يهود الشرق لدفعهم باتجاه الكيان الناشئ. ودفعهم هذا يشكل عنصري نجاح للحركة الصهيونية، الأول خزان بشري جديد لملء الجغرافيا المحتلة، والآخر ورقة تفاوضية استخدمت على طول المفاوضات مع العرب: لديكم ورقة اللاجئين الفلسطينيين، ولدينا ورقة اللاجئين اليهود الذين احتويناهم، وهم الآخرون بحاجة إلى تعويضات (تطالب "إسرائيل" بـ250 ملياراً كتعويضات لليهود الشرقيين)!
عملت الحركة الصهيونية على إحراق مقاهي اليهود ومحلاتهم وبيوتهم وممتلكاتهم في الشرق، دفعاً بهم إلى الكيان الناشئ. في العراق، عقد السعيد صفقة مع بن غوريون على يهود العراق (100 ألف شخص)، تضمنت مصادرة ممتلكاتهم مقابل الثمن (العنصرين السابقي الذكر) بالنسبة إلى بن غوريون.
برّر السعيد الموقف تحت عنوان مزيّف "دعونا نثقل كاهل الاقتصاد الإسرائيلي بمجموعة إضافية من اليهود". وقد باركت السفارة البريطانية في العراق الخطة، إدراكاً منها للفائدة الاستراتيجية المتحققة لصالح الكيان الصهيوني.
على سكة مشابهة سارت الأحداث في دول عربية أخرى، إلى أن جفّ الوجود اليهودي الشرقي مع السنين، مع الإشارة إلى أن أعداداً كبيرة منهم فضَّلوا التوجه إلى أوروبا أو أميركا اللاتينية، إدراكاً منهم للمشروع الدائر، وفضّلوا عدم ركوب "بساط الريح" في اليمن (العملية التي تم خلالها نقل اليهود من اليمن إلى الأرض المحتلة)، والالتحاق برحلة عيزرا ونحميا من العراق.
تجدر الإشارة إلى أن إيران تشترك مع العرب بتعرضها للدعاية الصهيونية نفسها إبان انتصار الثورة الإسلامية في إيران، فقد شنت الماكينة الإعلامية الصهيونية هجمة، داعية يهود إيران إلى المغادرة بعد انتصار الثورة.
ويعيش اليوم آلاف اليهود في إيران، وحقوقهم الدينية مصونة، وهم ممثلون دستورياً في الدولة، والأهم أن التيار الغالب فيهم يدين الصهيونية ويكنّ العداء للكيان الصهيوني.
ولكن ما علاقة "أم هارون" بكل هذا؟
إن المسلسل يأتي في سياق زماني مختلف عن نكبة 48، فمن يتابعه هو جيل لم يعرف حارات اليهود في الشرق، ولا يعرف دائماً تفاصيل الرواية الكاملة، وبذلك يعمل المسلسل على إسقاط حالة ذهنية جديدة تخلط الزمان والمكان والمكونات، وتناسب السياق التطبيعي السياسي الراهن: دعونا نتصالح مع إخوتنا القدامى، والإخوة القدامى في التعريف هم "دولة إسرائيل" نفسها.
هذا هو الوعي الذي يبحث المسلسل عن تشكيله. إن المصالحة مع يهود الشرق في المسلسل أو العشق الممنوع لـ"رحيل"، ما هو إلا أسماء مستعارة لمشروع التطبيع السياسي الذي تبادر به السعودية بقوة.
يبدو ذلك عاطفياً وجيداً بما يكفي، فاليهود الشرقيون في "إسرائيل"، الذين ما زالت لهجتهم تتعثّر بالحروف الحلقية، أو حتى يعجزون عن الحديث بالعبرية، يعيشون كمواطنين من درجة ثانية (كمالة عدد) لإعلان يهودية الدولة، ولذلك فإن الصلح التاريخي مع يهود الشرق يكمن في تخليصهم من الكيان الصهيوني الذي باتوا مكوناً ديمغرافياً فيه، وإعادتهم إلى أراضيهم التاريخية!
من الواضح أن قناة "MBC" اختارت طريق حكاية اليهود الشرقيين لترميم ما يلزم لصالح مشروع التطبيع. أما الحديث عن اليهود الأشكيناز، فلا يخدم أبداً المشروع التطبيعي الآن. لقد كان اختياراً حذراً لمهمة مستحيلة!
ثمة رسالة أقل مواربة من رسالة "أم هارون"، صادرة عن أحد يهوديي الشرق أنفسهم، وهو الكاتب سالوم شالوم شطريت، المأزوم بين شرقيته في المغرب ونشأته في كيان غاصب. كان ذلك في رثاء الشاعر الفلسطيني محمود درويش:
كم هو لكَ تماماً ذلك الوطنُ! وأنا لا وطنَ لي كهذا، لا كتابةً ولا أرضاً.
لكنْ باللهِ، لا تُشْفقْ عليّ ـ إذ ليس هذا هو المقصود،
ففي نهاية المطاف، أنا هو القاتلُ،
ولن تَشْفعَ لي ألفُ عريضةٍ وعريضةٍ ضدّ الاحتلال.
فأنا الجنديُّ
الذي يَقْتل الحمائمَ الثلاثَ بطلقةٍ واحدةٍ، مرةً بعدَ مرةٍ،
وقد غدا الأمرُ عادةً:
فأنا الذي أَطلقَ النارَ على الحصانِ المتروكِ وحيداً
قربَ البيت الذي غدا بيتيَ الجديدَ؛
وأنا الذي أَحكمتُ إقفالَ نوافذِه دونَ نُواح النادبينَ،
وأنا الذي سَدَدْتُ جيِّداً باب البئْرِ بالباطونِ المسلَّحِ
كي لا أرى ولا أسمعَ الحياةَ في المياه.