التّطبيع السّودانيّ مع "إسرائيل".. أين ثورة الحريّة والتغيير؟

مرافقة رئيس الموساد يوسي كوهين لنتنياهو إلى أوغندا للقاء البرهان ليست مصادفة، فـ"إسرائيل" لا تنظر إلى السودان في المتفرقات الجزئية والاختراقات الرمزية كحالة منفصلة عن أفريقيا السمراء والدول الخليجية التي تطبّع معها.

  • التّطبيع السّودانيّ مع "إسرائيل".. أين ثورة الحريّة والتغيير؟
    حكومة حمدوك تعمل على تعزيز التبعية للإمارات والسعودية

كشف مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنَّ رئيس المجلس السيادي الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان هو الذي طلب لقاءه في أوغندا، بإيعازٍ من الإمارات وتنسيقٍ من الرئيس يوري موسيفيني، من أجل التوسط مع البيت الأبيض، لكنّ التطبيع مع "إسرائيل" هو حصيلة توجّه "المرحلة الانتقالية"، التي تشارك فيها قوى الحرية والتغيير، نحو تسليم السودان إلى المحور الأميركي والبنك الدولي.

لم ترفع الولايات المتّحدة الأميركية العقوبات عن السودان، ولا زالت تدرجه على اللائحة الأميركية للدول الداعمة للإرهاب منذ العام 1993، فمحاولات وزيرة الخارجية في واشنطن وباريس التي باءت بالفشل، اصطدمت بشروط جديدة بعد إطاحة نظام البشير، عبّر عنها نتنياهو بقوله: "السَّير في اتجاه جديد وإيجابي لمساعدة السودان في دخول عملية الحداثة ووضعه على خريطة العالم".

ضمن هذه العملية، تفرض واشنطن تعويضات لضحاياها الذين سقطوا في سفارتي تانزانيا وكينيا في العام 1998، وستبدأ المحكمة العليا الأميركية الأسبوع المقبل النّظر في هذه التعويضات.

أبعد مما يقال عن الإفادة الظرفية بين "إسرائيل" والسودان، سواء كان الخرق العربيّ لدعم نتنياهو في صفقة ترامب والسماح لـ"إسرائيل" بعبور الأجواء السودانية مقابل الوساطة الإسرائيلية مع واشنطن، تتّجه الحكومة المشتركة بين المجلس العسكري و"الحرية والتغيير" إلى التخلّي عن السّودان لـ"إسرائيل" والإمارات والمحور الأميركي، بذريعة معالجة الأزمة الاقتصادية وتوفير السيولة.

إنَّ مرافقة رئيس الموساد يوسي كوهين لنتنياهو إلى عنتيبي للقاء البرهان ليست مصادفة، فـ"إسرائيل" لا تنظر إلى السودان في المتفرقات الجزئية والاختراقات الرمزية كحالة منفصلة عن أفريقيا السمراء والدول الخليجية التي تطبّع معها، من أجل السيطرة على هذه البلدان ونهب ثرواتها بدعم أميركي وغربي، وهي نظرة قديمة انطلقت ضد جمال عبد الناصر والسدّ العالي، وضدّ أنظمة "الوحدة الأفريقية"، بتوطيد العلاقة مع إثيوبيا لبناء سد النهضة، والسعي الدؤوب لفصل جنوب السودان. 

لكن تخلّي السادات عن أفريقيا بالصّلح مع "إسرائيل"، في مراهنةٍ على أنَّ 99% من الأوراق في يد أميركا، دعّم نفوذ أميركا و"إسرائيل" ومصالحهما في مصر والقارة السمراء، فباتت إثيوبيا و"إسرائيل" وأميركا تتحكّم بتجويع مصر والسودان وحرمانهما من رمق مياه النيل، وباتت إثيوبيا، إلى جانب "إسرائيل"، القوّة الرئيسية في أفريقيا السمراء، وهو ما يتباهى به نتنياهو بعد لقاء البرهان بقوله: "لقد عادت أفريقيا إلى حضن إسرائيل"، قاصداً الثأر من جمال عبد الناصر والتأثير العربي في أفريقيا، وهو ما يثني عليه مايك بومبيو، بتوجيه الدعوة للبرهان إلى واشنطن لزرع الوهم بمكافأته، كما كافأت أميركا مصر بتحويلها إلى دولة منهارة ولقمة سائغة لإثيوبيا و"إسرائيل".

يستعيد البرهان سياسة السادات في التطبيع مع "إسرائيل"، أملاً بالسمسرة الإسرائيلية مع البيت الأبيض، وتضخيم الأوهام على ما كان يسميه السادات "السلام من أجل الرفاهية والازدهار".

وفي هذا الاتجاه، سعى المجلس العسكريّ أثناء حكم البشير إلى الاتصال بالمخابرات الإسرائيليّة، ولم تنقطع هذه العلاقة التي نفاها رئيس الاستخبارات السودانية صلاح غوش في آذار/مارس 2019، بعد تسريب نبأ لقائه رئيس الموساد في ميونيخ الألمانية، لكنَّ حكومة عبد الله حمدوك لا تبتعد كثيراً عن البرهان في هذا التوجّه، وإن كان على مضض، بسبب توهّمها بأنّها مرغمة على الانصياع للإملاءات الأميركية والغربيّة، أملاً بالمراهنة على حلّ الأزمة الاقتصادية، كما يتخيّل البنك الدّوليّ و"إسرائيل" والدّول الغربيّة.

أما وزيرة الخارجية السودانية، أسماء محمد عبد الله، التي أجابت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية في مؤتمرها الصحافي مع الرئيس الفرنسي في باريس، بأنَّ التطبيع ليس على جدول أعمال الحكومة، فقد علّقت على لقاء البرهان بأنَّها لم تعلم به مسبقاً. 

ويثير وزير الإعلام في الحكومة مسألة الصلاحيات والتوقيت، بينما يعلّق مقربون من "الحرية والتغيير" بأنَّ السودان لم يعد حديقة خلفية، وبات في مرحلة انتقالية يقرّر فيها اختياره لمصالحه والدّول التي يرغب في التعاون معها.

وفي هذا السياق، لم تنبس الحكومة ببنت شفة رداً على دعوة أنصار الله لسحب القوات السودانية من الحرب على اليمن، ولم تنتفض لاكتشاف تجنيد شركات إماراتية شبّاناً يافعين، بدعوى "العمل في اليمن" مقابل حفنة من الدولارات، فحكومة حمدوك تستند إلى انتفاضة الشعب السوداني لتعزيز التبعية للإمارات والسعودية، وتخضع لوصايا البنك الدولي فيما يُسمى تشجيع الاستثمارات ورفع الدعم عن المواد الغذائية الأساسية، وتلتحق بالركب الذي أدّى إلى انهيار الدول وتجويع الناس، وإلى التبعية للولايات المتحدة و"إسرائيل" والدول الغربية.

تحظى هذه الدول بنحو 2604 مشاريع زراعية وخدماتية، تمتلك الإمارات 114 مشروعاً منها. وقد ساهمت هذه المشاريع بنقص الغذاء خلال العامين 2019 ــ 2020 حوالى 34% وحرمان المزارعين من أراضيهم.

وفي هذا الإطار، تراهن حكومة الحمدوك على التخلّي عن 80 مليون فدّان، برعاية إسرائيلية وأميركية، للشركات الأجنبيّة، بحسب مؤسّسة "غزلدمان ساكس" الأميركية، وتتوقَّع زيادة البطالة والفقر خلال السنتين المقبلتين حوالى 22%. ويهدّد التناحر بين الرعاة والمزارعين بتهديد الاستقرار الأمني، بينما تدّعي حكومة الحمدوك أنها تجنّد طاقاتها لحل الأزمة الاقتصادية. 

في واقع الأمر، تجنّد هذه الحكومة طاقتها لما أعلنت عنه في الميثاق بشأن المرحلة الانتقالية التي تنحصر بشكل أساس في "انتقال السودان إلى إدارة مدنية". ولا تدخل في هذا الإطار مساعي سياسةٍ خارجيةٍ مستقلّةٍ، ولا سياسة اجتماعيّة مستقلّة عن الوصايا وسيطرة الرأسمال الأجنبيّ، فانتفاضة السودان التي تخيّلت الإدارة المدنية سعياً إلى التغيير والحرية وتحسين أحوال المعيشة، يضعها التطبيع مع "إسرائيل" أمام الامتحان لمواجهة ضياع السودان وضياع فلسطين.